فاطمة الزهراء فلا
الإسكندرية تحتفل بالذكرى السبعين لميلاد أمل دنقل


شريف محيي الدين: الاحتفالية ترسخ ما نؤمن به من أن الفن الحقيقي لا يتجزأ، بل يتكامل ويجدد شبابه الدائم.

ميدل ايست اونلاين
الإسكندرية ـ من أحمد فضل شبلول

لم تتسع قاعة الأوديتوريوم بمكتبة الإسكندرية لهذا الجمهور الحاشد من الشعراء والكتاب والمثقفين من محبي الشاعر أمل دنقل، فاضطرت إدارة المكتبة لاختيار قاعة بديلة بمركز المؤتمرات انتقلنا إليها بعد أن أنهى الشاعر الكبير أحمد عبدالمعطي حجازي كلمته عن أمل.

وبالكاد ضمت القاعة البديلة الجمهور الكبير الذي لم تتوقع إدارة المكتبة توافده في الاحتفال بالذكرى السبعين لميلاد الشاعر الراحل الأحد 10 يناير/كانون الثاني الجاري، وفيها استكملت وقائع الجلسة الافتتاحية التي تحدث فيها المايسترو شريف محيي الدين مدير مركز الفنون بالمكتبة، الذي نظم هذه الاحتفالية وجمع هذا الحشد من محبي الشعر بعامة ومحبي الشاعر الراحل أمل دنقل بصفة خاصة.

وفي حديثه قال شريف محيي الدين: ربما تكون هذه الاحتفالية هي المرة الأولى التي يُحتفل فيها بالعيد السبعيني لميلاد شاعر راحل؛ وليس الاحتفال بذكرى رحيله كما جرت العادة. لكننا حين فكرنا في الاحتفال بأمل رأينا أن أمل لا يزال حيًّا بيننا، وهذا ما منحنا الحق في مخالفة العادة والاحتفال به بعد رحيله."

وأشار محيي الدين إلى أن دنقل لم يكن يومًا يجيد شيئًا من وسائل التسلق التي كانت ستمنحه ما هو جدير به من الشهرة والنجاح، بل كان يبيت بعض الليالي جائعًا ومكتفيًا بما في بيته من أسطوانات موسيقى ودواوين شعر.

وأوضح أنه في العام الماضي أفردت صحيفة "أخبار الأدب" عددا خاصًّا عن أمل، واستطلعت فيه آراء الشعراء الشباب من جيل التسعينيات وجيل الألفية الجديدة عن أمل دنقل وتأثيره فيهم، وكان من الواضح حجم التأثير والثراء الشعري لأمل الذي ظل شعره يتنفس في تجربة هؤلاء الشعراء.

وفي هذا السياق ـ يقول محيي الدين ـ ينبغي أن نبدأ احتفاليتنا بقضية مهمة ربما تكون غائبة عن كثيرين من المهتمين بشعر أمل، وهي: "أمل تلميذًا"؛ فإذا كان أمل أستاذا لأجيال من الشعراء الشباب بعده، فقد كان تلميذا للشاعر الكبير أحمد عبدالمعطي حجازي، الذي لا يمكنني تقديمه لأنه غني عن أي تقديم أو تعريف؛ هذا الأستاذ الذي أعلن أن أمل هو تلميذه الوحيد؛ بينما كان أمل في بدايته شديد التأثر به: شعرًا وفكرًا وروحًا للدرجة التي جعلته يهدي ديوانه الأول لأستاذه حجازي معترفًا له بأنه الذي علّمَه لون الحرف، وهذا اعتراف يندر أن يعترف به شاعر لشاعر؛ وهو يجلو لنا جانبًا إنسانيًّا مهمًّا لأمل، وجانبًا جديدًا لمعنى الريادة الشعرية الحقيقية التي كان شاعرنا حجازي أحد أهم أركانها في الشعر العربي الحديث.

ويشير المايسترو شريف محيي الدين أن هذه الاحتفالية سترسخ ما نؤمن به من أن الفن الحقيقي لا يتجزأ، بل يتكامل ويجدد شبابه الدائم بالفرار من قالبه التقليدي متخذًا لنفسه تجليات وأبعادًا فنية أكثر تنوعًا؛ وذلك بالاتكاء على ما هو جوهري في التجربة الفنية من النفوذ الثاقب إلى عمق التجربة الإنسانية في مستوياتها الشاملة ومنتجها الفكري والثقافي قديمًا وحديثًا، مما يسمح لها باقتحام مناطق ومساحات فنية متنوعة.

وقال: كنت شاهدًا على ما حققته تجربة أمل في هذا الصدد عندما قمت بتلحين بعض قصائده التي لم يمنعها عمقها الفكري ولا رصانة لغتها من الانصياع للغة موسيقية ذات طبيعة فنية مغايرة؛ والآن تتوالى على خاطري الذكريات الحميمة لهذه التجربة فيطرب لها قلبي. فحين قررت خوض هذه التجربة عام ألف وتسعمائة وتسعة وثمانين اندهش كثير من أصدقائي الفنانين، وتساءلوا: هل يمكن أن يخضع هذا الجبروت الشعري بعرامة لغته وعنفوان صوره وحواره العميق مع التاريخ؛ هل يمكن أن يخضع للتلحين ويترقرق غناء عذبًا؟!

وكانت المفاجأة ـ يضيف محيي الدين ـ أنني وجدت الشعر محتويًا على لحنه ومتدفقًا بموسيقاه؛ خلافا لما توقعه الجميع، وانطلقت في رحلة التلحين حتى اكتملت النصوص الملحنة أحد عشر نصا استمتعت غاية الاستمتاع باكتشاف طاقاتها الموسيقية الثرية الصافية، وذلك بقدر سعادتي بالحفاوة الجماهيرية الكبيرة التي كانت تنالها تلك الأعمال في مصر وفي أوروبا أيضا حيث كانت تُعرض مع ترجمة القصائد إلى اللغات الأوروبية، وكان تفاعل الجمهور الأوروبي معها مدهشا؛ وصارت ذكرياتي الحميمة معها أجمل وأكبر؛ وتحضرني من هذه الذكريات ذكرى مؤثرة أحب أن أشارككم دفئها: كان ذلك بألمانيا في أوبرا ساركرن وتم غناء بعض قصائد أمل مع عرض ترجمتها الألمانية، وكانت منها قصيدة "ضد من" التي كتبها أمل عن معاناته مع المرض اللعين حين اشتدت وطأته عليه، وإذا بالجمهور الألماني يحتفي بالعمل احتفاء مؤثرا حتى جاءتني بعد الحفل مجموعة من الممرضات الألمانيات، واعترفن لي بأنهن اكتشفن بعد هذا الحفل معاني جديدة لمعاناة الناس من المرض.

وتحدث الشاعر الكبير أحمد عبدالمعطي حجازي عن تجربة أمل الشعرية، مشيراً إلى أنها بلورة لكل ما قرأ وتعلم في تراث الفن . وقال "أجده اهتم بموضوعات اهتممت بها لكنه أبدع فيها إبداعا خاصاً لا يمكن أن يكون ثمرة التقليد والتلمذة . فأقرأ قصائده عن القاهرة أو الإسكندرية فأحسده وكنت أتمنى لو أنني كتبت هذه القصائد".

واستعاد حجازي ذكرياته مع دنقل حيث تعرف عليه لأول مرة في الستينات قبل أن يكتب القصيدة التي قدمته للقراء "كلمات سبارتاكوس الأخيرة". وقال "أمل دنقل كان مفتوناً بأصوات اللغة، فلا يمكن أن يفسر شعر أمل بعيداً عن الصوت اللغوي".

وألمح حجازي أن دنقل كان شديد الاهتمام بالتفاصيل في شعره رغم أن هناك تيارا في النقد كان يكره الحديث عن تفاصيل الواقع، باعتبار أن الشعر يتحدث عن الكليات وليس الجزئيات، لكنه استحضر كل التفاصيل بل استحضر حتى الماضي والحاضر.

ووجه حجازي حديثه للحاضرين قائلاً "لا تصدقوا كذابين يقولون إن الشاعر يمكن أن ينسلخ عن تراث لغته، هؤلاء كذابون".

وقرأ الشاعر الكبير أحمد عبدالمعطي حجازي بعضاً من أبيات قصيدة "أيلول" لأمل دنقل مشيراً إلى أن الشاعر استخدم فيها تقنية موسيقية تشمل الصوت والجوقة الخلفية.

أما الناقد د. أحمد درويش فقد تابع الحديث عن أمل دنقل وتجربته الشعرية، مؤكداً أن العظماء حين يرحلون لا يرحلون عنا بقدر ما يرحلون فينا، لأن ما غرسوه يبقى ظلا لنا، ويصب في عقولنا، ونصبح جزءا من الأسئلة التي طرحوها.

وقال "أمل لم يكن يخاف الموت، كان يدرك أن كفة الشاعر في الموازين أثقل من الموت. فقد روض وحشة الموت، ومن هنا جاءت لحظة اللقاء هادئة وادعة، فلم يعترض الموت رحلته إلا اعتراضاً فاصلاً بين النوم واليقظة."

وأكد درويش أن أمل استطاع من خلال موهبته الشعرية الجبارة وثقافته الواسعة وحاسته النقدية أن يفلت من دوائر التشابه، وكان له خصائص شعرية مميزة وتلك نقطة تميزه في عصور الإنتاج المتشابه وما أكثر تلك الفترة. كما أنه الوحيد الذي أحدث توازنا بين الإطلاق والتقييد، كما خطت تجربة أمل دنقل خطوات هامة بالنسبة لشاعرية التصوير جعلت قصيدته تقف في مرحلة وسط بين التأملية والسردية، فقد أتاحت متعة رأسية وأفقية في آن واحد.

وأوضح الناقد أنه إلى جانب الخيط السردي يوجد الحوار الدرامي، كما تنخلع على قصائد أمل آثار التصوير السينمائي لشاعر اتسعت معه حتى أمكن أن تتحول إلى عمل سينمائي، وهو حال قصيدته "نافورة حمراء".

وتحدث عن تقنيات الصورة الشعرية عند أمل وقال "إن التطور الذي حدث في تقنيات الصورة الشعرية عند أمل هو لاشك جزء من تطور عام، لكنها تجسدت بشكل فني نافذ وواسع في قصائده، وواقع تشكل في سمة فنية، أصبح من الضروري معه أن يعاد النظر في جوهر التطور في هذا القرن".

وذهب درويش إلى أن قصائد أمل دنقل كانت حداثية، وانتقد تراجع الشعر بصفة عامة وتدهور مكانته، فلم تعد القصائد تحتل الصفحات الأولى من الجرائد اليومية، كما أن الشعراء يعتصمون بعالمهم الخاص راضين أو غير راضين تاركين الساحة للشعراء الخطابيين.

وأكد أن قصائد دنقل أصبحت أناشيد وشعارات رددتها ألسنة المتعاطفين والثوريين أعواماً وأعواماً حتى بعد رحيل صاحبها. وأوضح أن أمل خلد نمط الحداثة الجماهيرية في مقابل الحداثة النخبوية.

وجاءت الجلسة الثانية التي أدارها الدكتور محمد زكريا عناني، ليدلي عدد من المثقفين بشهادات عن الشاعر الراحل، استهلها أنس دنقل (شقيق الشاعر الراحل) بكلمة تحدث فيها عن أمل دنقل الإنسان، ونظرته للريف والمدينة، وعلاقته بالشعراء. وقال "كان أمل يضيق بالقرية ورأى أن لون الريف هو السذاجة التي يضيق بها، ورأى في المدينة صورة الأب الشاعر وأنها رمز من رموز المعرفة في عالم أكثير تعقيداً، لكنها في نظره كانت مليئة بالطبقات التي ما تزال القيم بالبدائية تعيش في وجدانها، لذلك لم يفصل في شعره بين الريف والمدينة".

وكشف أنس وجها آخر لأمل يتصل بعلاقته مع بعض الأدباء والفنانين، حيث كان يكره هذه الحساسية الزائفة التي يدعيها بعض الأدباء وصورة الشاعر شاحب الوجه الذي يرى طائراً جريحاً فيهتف، كان يؤمن بالترابط والتساوي، وأن دور الشاعر لا يختلف عن دور العامل في مصنعه والفلاح في مزرعته. وكان يحب كل الأصدقاء الصادقين حتى ولو كانوا ضعفاء.

وأضاف قائلاً: أما الجانب الآخر الذي يبرز في شخصية أمل فهو التمرد على كل أشكال السلطة والقمع ويمكن أن نرجع ذلك إلى ظاهرة اليتم، ورفض أمل سلطان العائلة وترتب على هذا التمرد كراهية عميقة للضعف والشكوى وطلباً للقوة وهو ما نراه في شعره.

وانتقد إهمال النقاد للعديد من الجوانب المضيئة في شعر أمل وعدم تناولها بالتحليل والدراسة، حيث تقطع كل الدراسات جذوره في الصعيد معتبرين أن مواقف أمل السياسية مختلفة عن مواقفه الاجتماعية والشخصية، رغم أن تعبيره عن الواقع السياسي هو تعبير عن ذاته.

وأدلى الدكتور محمد رفيق خليل، بشهادته التي تحدث فيها عن الفترة السكندرية في حياة أمل دنقل، قائلاً "كان يمثل ريحاً عاتية وفي الوقت نفسه وديعة، عرفته في بداية الستينيات وكنت وقتها في السادسة عشرة من العمر، وكنت ألقاه في أتيليه الإسكندرية، لم يكن منبهراً بالمدينة إلى حد كبير، وكانت الإسكندرية بالنسبة له موحشة لكنه اعتبر مقاهيها امتداداً للزمان، فكتب عن "ماريا" الساقية اليونانية، وكما كانت الإسكندرية له مدينة الحلم كانت بالنسبة له المدينة القاسية.

والتقط خيط الحديث، الشاعر عبدالعزيز موافي قائلاً "إن هناك الكثيرين ممن يرون في أمل إنسانا غير مفهوم، لكنها طبيعة الشعراء، فقط كان أمل مزيجاً من الأشياء والصفات المتناقضة وكان يبدو شرساً لكنه يملك قلب عصفور وبسمة طفل. كان يمتلك حساً نقدياً ربما لم يظهر لكنه وعياً نقدياً عالياً. وكان يرى أن الموهبة لا تصنع الشاعر لكن ما يصنعه هو ثقافة الشاعر، فهي التي تحدد رؤيته".

أما الشاعر علاء خالد، فكانت شهادته من خلال قراءته لأعمال الشاعر أمل دنقل، وقال "تعرفت على قصائد أمل في المرحلة الجامعية، في سنوات كان الفكر الديني هو المسيطر، كانت قصائده مزيجا من المواجهة الشعرية للحظة السياسية وفي الوقت نفسه مرجعا تاريخيا عربيا، وكنت أرى في شعر أمل موهبة خاصة، وقدرة على الارتجال الشعري".

وأضاف خالد "لقد كان شعر أمل جزءاً من اللحظة التاريخية، سريع التحول والتبني والتمثل من سياقات اجتماعية وثقافية، ويحتوي بداخله ما يوحده مع الذاكرة الجماعية. لحظة الشفاهة هي لحظة فرح عارم بالتعاضد، وشعر أمل دنقل كان يقف، مع غيره وراء هذا الفرح".

فيما قدم الشاعر حميدة عبدالله ورقه بعنوان "الجنوبي وأسئلة الشعر وأسئلة التاريخ"، قال فيها "أرى أن أمل دنقل شاعر عصي على التصنيف، فقد جمع في مشروعه كل المتناقضات وجعلها كلاً متماسكاً، وهو الشاعر الذي كان صوت المشروع القومي".

وجاءت شهادة زوجته عبلة الرويني، لتعبر خلالها عن سعادتها باحتفال مكتبة الإسكندرية بميلاد الشاعر، الذي حسبما ذكرت لم يحتفل بعيد ميلاده سوى مرة واحدة وأخيرة. فلم يعرف هذا الطقس الاجتماعي إلا من خلال جابر عصفور حينما أصر أن يحتفل بعيد ميلاده وأخذه في سيارته ليتجول في شوارع القاهرة في وقت اشتد عليه المرض، كان هذا الاحتفال أول وآخر احتفال.

وأضافت الرويني "كان أمل يحتفل بميلاد القصيدة، فقد كان من المعتدين بموهبتهم لكنه لم يحب قراءة أشعاره، وفي أوقات كثيرة كان يقرأ أشعار حجازي وعبدالصبور ويستعرض ذاكرته الحديدية".

واستطردت "لم يشغل أمل نفسه عن كتابة الشعر بأي شئ آخر حتى كتابه النثر، فكانت له مقالات معدودة، هي أربع مقالات عن أسباب نزول القرآن، وواحدة عن صلاح عبدالصبور، وواحدة عن عبدالمعطي حجازي".

وقالت "لم يكن يكن له منزل، وكان يتنقل بين منازل أصدقائه، وبالتالي لم تكن لديه مكتبة، لكن كانت هناك أربعة كتب تلازمه بصفة دائمة، منها القرآن الكريم، وكتاب الأغاني. وكان يقرأ في التاريخ وكانت تلك أهم قراءاته".

وأضافت عبلة الرويني "قصائد أمل أثرت في كل الشعراء حتى المناهضين لها، فالشاعر الحقيقي هو فاعلية القصيدة وقدرتها على الحضور، فقد عبرت قصيدة أمل اللحظة التاريخية وتجاوزت ذلك".

واتسعت احتفالية أمل دنقل لسماع شهادات لشعراء من جيل الثمانينيات من الذين لم يلتقوا أمل لقاء شخصيًّا بل إبداعيًّا، وشارك فيها عبدالرحيم يوسف وصالح أحمد وحمدي زيدان، وأدارها الشاعر عمر حاذق.

وقال الشاعر صالح أحمد إن مطالعته الأولى لشعر أمل دنقل كانت صادمة؛ حيث التغيرات الجذرية في نهجه الشعري مقارنة بما استقر في وعي صالح آنذاك، فإذا بالعالم الشعري ينتقل إلى شوارع القاهرة والإسكندرية والسويس، وإلى العالم الواقعي المفعم بالحواس ومفردات الحياة اليومية.

وأضاف أن هذا التحول في المعجم الشعري يشير إلى أن الشعر ليس مرهونا بنوع من المفردات التي تحتكر الإيحاء الشعري، ولكنه منفتح إلى ما لا نهاية له من الألفاظ الرسمي منها والسوقي، المستحدث والموروث، طالما أن الشاعر يرى أنه لا يقوم مقامها بديل لفظي آخر.

وأشار إلى أنه بعد مرور 27 عاما على وفاة دنقل؛ فإن أي متتبع لسيرته يتبين له مدى إخلاصه للشعر. ورغم تصوره للشعر أنه لا يخلو من دور رسولي تحريضي، إلا أنه مثّل لديه خلاصا ذاتيا. وقد أدخل إلى القصيدة الواقعية تكنيكات أثرتها؛ حيث تبنى أمل قصيدة المقاطع وأنشأ بينها روابط من المعنى لم تكن معهودة؛ فتارة تكون أجزاء منزوعة من صورة كبيرة، وأحيانا تكون تتابعا سرديا لخط حكاية طويلة، بينما تمثل في أحيان أخرى أصوات متصارعة دراميا.

ونوّه صالح أحمد إلى أن الدراما أميز ما تبنته قصيدة أمل دنقل من حيث تركيزها على الحدث والصراع وعرض المواقف والأصوات المتباينة؛ لذا يلاحظ استخدام الهلالين والأقواس في مجمل نصوصه الشعرية.

واختتم شهادته قائلا: "إن جيلي بينه وبين أمل هوة كبيرة؛ فنحن نفارقه في إعلائنا قيمة اللامبالاة تجاه مصير العالم وأحواله المتردية، كما نفارقه في تمجيدنا لفرس الرهان الجديد؛ وهو السخرية من كل شيء".

ولعل الإضافة الجديدة لهذه الاحتفالية بمكتبة الإسكندرية تأتي من زاويتين، الأولى عرض الفيلم التسجيلي "حديث الغرفة رقم 8" الذي أخرجته عطيات الأبنودي وهو إنتاج عام 1990، ويسجل الفيلم لقطات مع والدة الشاعر عقب رحيله، والشاعر أثناء وجوده في مستشفى معهد السرطان بالقاهرة وذكرياته عن بداياته وتقبله للمرض ورؤيته للشعر وللعالم من حوله.

والزاوية الأخرى تأتي في ختام الاحتفالية، حيث انتقلنا لقاعة المؤتمرات الكبرى بالمكتبة، وقرأ بعض الشعراء قصائد أمل دنقل، مصحوبة بعزف موسيقي أوبرالي لفرقة مكتبة الإسكندرية بقيادة المايسترو شريف محيي الدين، وشاركت الفنانة نيفين علوبة بغناء أوبرالي متميز لبعض قصائد أمل منها: ضد من؟ والجدار، وقصائد من ديوان "العهد الآتي" وقصائد من سفر ألف دال، كما شارك محمد أبو الخير (تينور)، وأشرف سويلم (باريتون).

وقمت بإلقاء قصيدة "البكاء بين يدي زرقاء اليمامة"، وألقى الشاعر بشير عياد مقاطع من قصيدة "لا تصالح"، وألقى الشاعر عمر حاذق (منسق الاحتفالية) قصيدة "الجنوبي"، وشارك كل من الشعراء: سامي إسماعيل، وإيمان السباعي، وحسن معروف، ومحمد منصور، بقصائد أخرى لأمل دنقل.

أحمد فضل شبلول ـ الإسكندرية