فاطمة الزهراء فلا
حبكة السردية تهيئ المتلقي لاستقبال عمل غير تقليدي.. غير درامي

عن أيام سعدالله ونوس المخمورة

مسرحية الكاتب السوري الراحل تقدم حكايتين.. حبكتين.. تكشفان عن الحب والحقيقة معاً.


دمشق - من رضاب فيصل نهار

"الأيام المخمورة" مسرحية إنسانية اجتماعية للكاتب المسرحي السوري الراحل سعدالله ونوس، نستطيع أن نعبر خلالها إلى واقع سياسي اجتماعي كانت تعيشه تلك المنطقة الحاضنة لأحداث المسرحية.

ففي المسرحية نحن أمام حكايتين: حكاية سناء وزوجها عبدالقادر وأولادها الأربعة، ورحلة البحث عن الحب والحرية عند حبيب الشمالي ونهاية هذه الرحلة. وحكاية الحفيد، الباحث وراء حقيقة عائلته، والذي يقول في بداية المسرحية: "مع نمو إدراكي وفضولي، أيقنت أن في العائلة دملاً يتستر عليه الجميع. وأدركت على نحو غامض، أني لن أستقر في اسمي وهويتي إلا إذا كشفت الدمل وفقأته ".

وتداخلت الحكايتان، بطريقة إبداعية من الكاتب، واقتضت هذه الطريقة شكل كتابة معين، وطريقة بناء للأحداث مختلفة عن الطريقة التقليدية. فقد قسّم ونوس المسرحية على ستة وعشرين فصلاً ـ ولكن لا تعني الكلمة ما تعنيه في المسرح الدرامي. وجاءت كثرة الفصول هذه لتدل على ضخامة أفكار المسرحية وأهميتها، وليس على طول المسرحية. هذه الفصول الستة عشر تتناول تحولات هامة لشخصيات المسرحية بالعلاقة مع الفترة المعاشة آنذاك، وذلك عن طريق الحفيد، الحامل للسرد، والمنسق الدرامي للنص.


كما أن البنية الدرامية في الأيام المخمورة محيرة. فالطابع الملحمي الذي أُضفى على النص من خلال التقطيع إلى ستة وعشرين فصلاً، وحيث كل فصل كان يحمل عنواناً يدل على الموضوع الذي يحتويه، ووجود السر كمميز للنص، كل ذلك ساعد في كسر الحبكة التقليدية.

والحبكة، كما يذكر المعجم المسرحي لماري الياس وحنان قصاب حسن: "مفهوم له علاقة بالجانب الدرامي في المسرح والرواية، وفي كثير من الأنواع الدرامية، فهي مجموعة أحداث تتشابك خيوطها بسبب تعارض رغبات الشخصيات. وهذا التعارض يترجم إلى أفعال يتحدد من خلالها المسار الديناميكي للمسرحية من البداية وحتى النهاية (...) أي أن الحبكة بناء يتركب على النواة البسيطة التي هي الحكاية ".

وبما أننا أمام حكايتين، حكاية سناء وحكاية الحفيد، وباعتبار الحكاية الأولى تحتوي الحكاية الثانية، فنحن بالتالي أمام حبكتين استطاع الكاتب خلق تواصل فيما بينهما.


الحبكة الأولى


الحبكة الاولى حبكة سردية، وقد حددت وظيفة الحفيد وعمله. فهو حامل السرد والباحث في الذاكرة عن الحقيقة. والحفيد هو الراوي الذي يروي من الخارج، فلا يشارك في مجرى الأحداث كإحدى شخصياتها، لكنه وفي الوقت نفسه ليس حيادياً أيضاً، فكثير ما يطرح وجهة نظره بطبيعة ما يروى له، أو يعطي وجهة نظره بإحدى الشخصيات.

ونلاحظ أن للحفيد في المسرحية خطاباً مزدوجاً، فتارة يتحدث إلينا ليحكي لنا عما يعتريه وما يلاقيه، وحتى يشرح أحياناً عمله في البحث عن الحقيقة، ليترك لنا المجال في إتمام الفجوات: "هناك فجوات كثيرة، لم أجد ما يسعفني على ملئها إلا خيالي. وعلى كل كنت كلما تقدمت في عملي أدرك أن ما أجمعه، و أرتبه، ليس إلا أخباراً، يتشابك فيها الحقيقي والخيالي معاً ".

وإضافة إلى خطابه الأول، هناك حواره مع بعض الشخصيات (ليلى ـ سلمى ـ سرحان)، ولكن حتى أثناء هذه المحاورات كان السرد يشكل الأساس، فكل الأحاديث كانت تستحضر أحداثاً حدثت في الماضي للشخصيات المذكورة ولبقية الشخصيات، وكانت تستحضرها عن طريق السرد.

وكانت البداية في هذه الحكاية (البداية لهذه الحبكة) هي إعلان الحفيد عن مشروعه في كشف سر العائلة ونبش الذاكرة ساعياً وراء الحقيقة.

من المؤكد أن ونوس لم يختر هذه الحبكة عن عبث، بل اختارها كي تساعد المتلقي على التفكير بطبيعة ما يجري، بوعيٍ تام، وأن يستطيع محاكمة الأحداث والشخصيات بطريقة عقلانية واعية بعيدة نوعاً ما عن العواطف.

وكما تهيئ هذه الحبكة السردية المتلقي منذ البداية لاستقبال عمل غير تقليدي.. غير درامي نوعاً ما.


الحبكة الثانية


الحبكة الثانية هي تلك التي نتجت عن حكاية سناء، ويمكن اعتبارها حبكة درامية أو تقليدية نوعاً ما، نظراً للعلاقة السببية التي تربط بين مشاهد الحكاية.

ولا يوجد ترابط زمني بين الفصول، لكن الأحداث التي يتضمنها كل فصل، فهي أحداث لم يتم انتقاؤها عشوائياً من قبل الكاتب، بل كانت تعبر عن حالة الشخصيات النفسية والعلاقات الاجتماعية بشكل هام ومكثف، وتكشف الطبيعة الحياتية و المجتمعية لهذه الشخصيات في تلك المنطقة وفي ذلك الزمن ن وكما قلنا فإن الترابط السببي يجمع فيما بينها.

فمثلاً وفي الفصل الأول، فصل "الأرق والتطير" الذي اختاره ونوس كنقطة انطلاق للمسرحية، والذي يضعنا نوعاً ما في وضع أو حالة سناء، يتبعه الفصل الثاني، فصل "سناء والتابعة" ليكشف لنا عن المشكلة ويوضح الحالة النفسية والعاطفية لسناء من خلال حوارها مع المرأة التابعة (حديثها مع نفسها):

"المرأة: (لا مبالية، وفي صوتها بحة وخشونة) هل تبتهلين إلى الله، أن يعذبك، ويجعل أيامك شقية؟

سناء: أبتهل إليه أن يحميني. إني امرأة متعبة، ولا أتحمل هذا الوجع.

المرأة: هذا وجع يختلف عن الوجع. إنه وجع ممتع، ولا يعرف القلب كيف يميّز فيه أين الممتع وأين الموجع".

وبعد هذين الفصلين تمر 7 فصول نتعرف خلالها على بقية الشخصيات، ونرى تطور حالة سناء العاطفية والنفسية. وفصل "جريمة العصر" الذي تظهر فيه فرقة الأراجوز وهي تمثل قصة حب محرمة بكافة الممنوعات والمرغوبات التي تتضمنها، بين صبية وشاب، لتعطي سناء المحفّز الأكبر للهرب.

وبعد ذلك يأتي فصل "القرار ونهاية الانتظار"، الذي يجرّ فصل "الغضب والدموع" وهكذا.. أي أن الارتباط السببي بين الفصول واضح، على الرغم من كثرة الفصول الفاصلة، وكذلك صراع الشخصيات مع ذواتها ومع بقية الشخصيات كان واضحاَ، وخاصة صراع سناء بين الحب والواجب. وأظهرت لنا هذه الحبكة بداية رصد عام لأزمة سناء وتصاعده، وانخمادها فيما بعد.

وما أود الإشارة إليه، هو و