فاطمة الزهراء فلا
معي قطرة

متى تتمرد الموجة وتشهق الوردة في قصائد شبلول؟


النسيج الشعري في 'اسكندرية المهاجرة' ينساب في تمكن واتزان، فالشاعر يسيطر على لغته وإيقاعه وصوره ومشاعره.

بقلم: د. محمد زكريا عناني

لا شك أن الشاعر أحمد فضل شبلول "ظاهرة" بالمعنى الدقيق للكلمة، وإلا فأي تعبير يمكن أن يطلق على هذا "الفتى" الذي لا يتوقف عن التأليف والإبداع منذ ثلاثين سنة، مما يعني أنه بدأ رحلة المعاناة منذ ربيع العمر بوعي وإصرار وإرادة، ولا بأس من أن أضيف ولا إرادة أيضا.

فأي إرادة واعية هذه التي تسلبنا إرادتنا وتجعلنا عبيدا للكلمات وأسرى للأوراق، ولكي أخصص بدلا من التعميم، ها هو أحمد فضل شبلول يعيش من خلال الورق، هذا الفيض من الدواوين، ثم هذا الافتتان بعالم الطفولة، والذي كان من ثمرته عديد الكتب الجيدة حقا مثل "جماليات النص الشعري للأطفال"، و"معجم شعراء الطفولة في الوطن العربي خلال القرن العشرين"، و"أدب الأطفال في الوطن العربي ـ قضايا وآراء"، فضلا عما ظهر له من كتابات إبداعية موجهة للأطفال مثل "أشجار الشارع أخواتي" و"حديث الشمس والقمر"، و"طائرة ومدينة"، و"بيريه الحكيم يتحدث"، و"آلاء والبحر".

ومن الملاحظ أن شاعرنا يهتم بالأدب الحديث اهتماما بالغا على نحو ما يتبدى في كتابه "قضايا الحداثة في الشعر والقصة القصيرة"، و"أصوات من الشعر المعاصر"، ولكنه في الوقت ذاته شديد الاتصال بالتراث الذي ارتكز عليه في أكثر من عمل وخاصة "معجم الدهر"، و"مصر في القاموس المحيط",

ولأحمد شبلول ولع بالكمبيوتر والإنترنت، وهو يوظف هذه الوسائل الحديثة لخدمة الأدب، ولا أظن أن في الإسكندرية من يضاهيه في هذا المجال وهذه فرصة لكي أشيد أيضا بالصديقين منير عتيبة وحسام عبدالقادر.

ولا شك أن لأحمد فضل شبلول حضورا فعَّالا في الحياة الثقافية بالإسكندرية، و"فاروس" خير دليل على هذا، فضلا عن التحية الواجبة لدماثة خلقه ورزانته وترفعه عن الصغائر التي كثيرا ما تفجؤنا هنا وهناك.

***

إنما مدار الحديث بشكل محدد حول ديوان "إسكندرية المهاجرة" الذي صدر عن اتحاد الكتاب مصر في قرابة مائتي صفحة والذي يتحدد منطلقه منذ الكلمة الأولى فيه، فشبلول واحد من الذين عرفوا كيف يوظفون سكندريتهم إلى أبعد حد، إذ جعلها محور الجانب الأكبر من إبداعه واهتمامه على نحو ما صنع من قبل شاعر الإسكندرية العظيم عبدالعليم القباني، ومن الروائيين محمد جبريل وإبراهيم عبدالمجيد، ومصطفى نصر وسعيد بكر ومحمد عبدالله عيسى والدكتورة حورية البدري وعبد الفتاح مرسي ..الخ.

وقد تحدثت منذ سنين طوال عن مدى عمق إحساس أحمد شبلول بالإسكندرية والبحر من خلال تناولي لديوانه المبكر "ويضيع البحر"، والقضية ليست مجرد زج بالإسكندرية أو البحر في عناوين القصائد والدواوين، إنما يأتي الطابع المحلي من خلال التمكن من استيعاب روح المكان وترجمتها من خلال الومضات والصور الدالة، وهي مسألة تتم عند شبلول بتمكن شديد.

مسافرٌ .. ؟!

وراءك النهارُ والبحارُ والطريقْ

ونسمةٌ كانت تداعبُ النوارسَ المهاجرة (ص 11)

ونقرأ:

أتيتُكِ .. والبحرُ يحبو إلى ساعديكِ،

وكان النهارُ يغرِّدُ في مقلتيكِ،

تركتُ ورائي النوارسَ .. والأغنياتْ،

وموجةَ صدْقٍ ..

ترَدِّدُ ما كان مِنْ أُمْنياتْ (ص 17)

ويقول في قصيدة "هارب من ذكريات القصيدة"، وهي واحدة من أجمل قصائد الديوان:

تركتُ ورائي البحارَ ..

وجئتُ ..

فهلْ ستكونين لي موسمًا أخضرَا ..؟

بعمقِ البذورِ يطاولُ تلك السماءَ..

أمَ انَّ السحابَ ضنينٌ ..

وهذا المطرْ

يجفُّ بُعَيْدَ السفرْ ..؟

تركتُ ورائي النهارَ..

وجئتُ ..

معي قطرةٌ من دموعِ الندى

معي حبَّةٌ من رمالِ الحنين،

معي موجةٌ من أسى .. (ص 23)

ويبدو ما للبحر من قيمة من خلال "البيت المفتاح" الذي يبدأ به كل مقطع فـ "البحار" معادل للنهار، بينما في الغربة:

تسافر كل الشموس

بلا رجعة

وسوف تطول الرحلة عبر صفحات الديوان الحافلة بأمواج الأسى، وهي تتدفق في شرايين الشاعر المغترب، ويا لطول ليالي الحنين، وها هو وقد أحاطت به الصحراء من كل جانب فيغادرها:

وأُيَمِّمُ وجهي شَطْرَ البحرِ،

فتهربُ منِّي الأمواجُ،

وتدخل في سردابِ الرملِ النائي (ص 29 )

وفي قصيدة "الحيتان" يهيمن البحر على روح الشاعر في المنتأى:

يدخلُ غرفةَ أحلامي ..

ويُمَزلِجُهَا ..

ويبعثرُ أملاحَ الفوضى في الأركان

اسْتَنْشِقُ رائحةَ اليودِ،

ورائحةَ الإسفنج،

ورائحةَ الطوفانْ (ص 37)

وتبلغ المحنة ذروتها في قصيدة "الإسكندرية المهاجرة" فها هو صاحبنا وقد رحل عن البحر إلى الرمل، والرمل معادل عنده لـ "السعير والسراب والمحال":

تفجَّرتْ دموعُ وردتي

وواصلتْ نشيجَها ..

بوابةُ الوطنْ

وذكرياتُ الطفلِ فوق صَخْرةِ المِحَنْ

هنا الصخورُ لم يعُدْ لها مكان

ولا أمانَ للشموسِ ..

لا أمان

هنا البحارُ لا أَثَرْ

لا عشبةٌ تجيءُ من حقولِ فكرِنا

ولا مَطَرْ

فتشتُ في الحجارِ عن عيون

ضاق السؤال في حلوقِ صاحبي

وامتلأت شطآن وحدتي ..

بغربةِ المهاجرين والأنصار

أجريتُ من دمي بحارا

ومن دموعِ وردتي ..

أنزلتُ هذه الوجوه في حنيني

رسمتُها،

لاطفتُها،

قبَّلتُها،

لعلَّها .. تقيمُ في جنوني

واسْكندريةُ المهاجرة

تبيتُ في دمي

وتستحمُّ في ضلوعي

وترتمي ..

على رمالِ

غربتي (ص 52)

من الواضح أن النسيج الشعري عند أحمد شبلول ينساب في تمكن واتزان، إنه يسيطر على لغته وإيقاعه وصوره ومشاعره أيضا، فرغم فيض الإحساس بوطأة الغربة إلا أنه مستسلم لمصيره، فلا تهب في الأبيات انتفاضات التمرد أو الغضب والسخط، وبذا فإن "الإسكندرية" تبدو له على الدوام بمثابة الدواء المسكن للألم، ولا شك أن السيطرة على أبعاد التجربة ميزة وفرت للديوان هذه الرصانة والانسجام، فالنتائج متسقة إلى أبعد مدى مع المقدمات، ومع ذلك فإننا نتوقع عادة من الشعراء قدرا ما ـ قد يكبر أو يصغر ـ من العصيان والاندفاع والنزق، وهو ليس متوافرا هنا، فمتى يحين هذا أيها الشاعر المبدع، متى تتمرد الموجة وتشهق الوردة؟

د. محمد زكريا عناني

أستاذ الأدب والنقد ـ كلية الآداب ـ جامعة الإسكندرية