أضحى مفهوم الإصلاح العربي مدخلا واعدا لصناعة المستقبل العربي وقناة أساس لفض الاحتباس الحضاري المتجمد ، وإعادة تجديد دمائه نحو عالم متغير متجدد ومتوهج بشبابه ووثاب بمفكريه وأطره. التغير المناخي، الثورة الرقمية، الواقع العربي والعلاقات العربية: مداخل يستوجب سبر أغوارها تمحيصا وجسا ثم رؤية لتحديد موقف عربي موحد لولوج آفاق المستقبل المتحول والانخراط الحضاري الشامل مع صيرورة التطور المضطرد للبشرية في مختلف مناحيها وأبعادها الإنسانية، وفق تقبل التعددية والانفتاح وكذا إدماج البعد العلمي والعقلاني والمنهج العلمي في التفكير العربي.
وفي نفس السياق، حذا الاجتماع السنوي السابع لمنتدى الإصلاح العربي المنظم من قبل مكتبة الإسكندرية إلى مقاربة دور العرب في تشكل العالم من جديد وموقع العرب نحو مستقبل أفضل من أجل صياغة سيناريوهات الغد العربي.
وبخصوص محور "الثورة الرقمية"؛ ناقش المؤتمر على مدار جلساته عدة موضوعات قاربت مجال الرقمنة والعالم العربي، ومستقبل اللغة العربية في ظل الرقمنة، وحقوق الملكية الفكرية في ظل الرقمنة.
"الرقمنة والعالم العربي"، جلسة موازية أدارها؛ رئيس تحرير مجلة "وجهات نظر" أيمن الصياد، واستعرض خلالها الدكتور إسماعيل سراج الدين؛ مدير مكتبة الإسكندرية، المشروعات الرقمية التي تقوم بها مكتبة الإسكندرية لتعزيز المحتوى العربي على الإنترنت بسواعد شباب مصري عربي عمره بين 22 و 29 عاما، تحت قيادة خبراء في مكتبة الإسكندرية؛ ومنها مشروع إعادة نشر كتب التراث والمخطوطات التراثية، ومشروع الأرشيف الرقمي لذاكرة مصر المعاصرة، والأرشيفات الرقمية لجمال عبدالناصر والسادات وبطرس بطرس غالي وغيرهم، ومشروع موسوعة الحياة العربية، والمكتبة الرقمية العالمية، والمكتبة الرقمية العربية، ولغة التواصل الرقمية العالمية.
وتركز مكتبة الإسكندرية منذ إعادة إحيائها، يضيف الدكتور سراج الدين، على أن تكون رائدة في العصر الرقمي؛ خاصة في جانب اللغة العربية. وقد تأكد ذلك من خلال العديد من المشروعات الرائدة دوليا، والتي جعلت العالم يثق في مكتبة الإسكندرية؛ وهو ما تمثل في انضمامها للاتحاد الدولي للمكتبات الرقمية عام 2005، أي بعد ثلاث سنوات من افتتاحها.
وأشار إلى قيام مكتبة الإسكندرية بلعب دور محوري في تأسيس أكبر مكتبة رقمية عالمية، والتي أطلقتها مكتبة الكونجرس من مقر منظمة اليونسكو في باريس في أبريل/نيسان 2009 بالتعاون مع عدد من الجهات العالمية. وتتيح المكتبة لمستخدميها من القراء والدارسين والمهتمين الاطلاع على كنوز العالم المعرفية والثقافية عبر هذا الأرشيف الإلكتروني الذي يتضمن مقتنيات أكثر من 30 مؤسسة عالمية.
واستعانت مكتبة الكونجرس في هذا المشروع الضخم؛ الذي رعته منظمة اليونسكو، بالمساعدات التقنية من فريق عمل متخصص من مكتبة الإسكندرية، والذي كان له اليد في وضع أساسات هذه المكتبة الرقمية الهائلة. كما أسهمت المكتبة بإضافة كتاب "وصف مصر" للمكتبة الرقمية العالمية والذي يرجع تاريخه إلى حملة نابليون بونابارت على مصر عام 1798 والذي تم تحويله إلى صورة رقمية بمعرفة مكتبة الإسكندرية عام 2007. كما أنها أطلقت فضلا عن ذلك أكبر مكتبة رقمية باللغة العربية في العالم أجمع؛ حيث احتفلت أوائل العام الماضي 2009 بوضع أكثر من مائة ألف كتاب عربي على شبكة الإنترنت، امتثالا لرسالة مكتبة الإسكندرية التي تسعى لإتاحة المعرفة للجميع.
ووصل عدد الكتب العربية المرقمنة إلى 150 ألف كتاب، يؤكد الدكتور سراج الدين، في كافة مجالات المعرفة، والعدد في تزايد مستمر. ويمكن لأي شخص تصفح هذه المجموعة الضخمة من الكتب من خلال الرابط الإلكتروني:http://dar.bibalex.org ، وهو الأرشيف الرقمي الذي قام بإنشائه المعهد الدولي للدراسات المعلوماتية بمكتبة الإسكندرية ليضم مجموعات الكتب المختلفة والصور والخرائط. ويذلل هذا الإنجاز صعوبة الحصول على الكتب التي نفدت طباعتها أو التي قد تكون من التخصص بما يصعب على ناشر الاستثمار فيها لقلة قرائها أو تكون كتبًا قديمة لا تخضع لحقوق الملكية الفكرية ولكنها تحتاج لنشر جديد بأعداد صغيرة.
ويعد تكوين المكتبة الرقمية العربية وإتاحتها للجميع على شبكة الإنترنت إسهامًا كبيرًا من مكتبة الإسكندرية لدعم الثقافة العربية في هذا العصر الرقمي الجديد، كما تكمن أهمية هذا المشروع في حفظ الكتب والمراجع التي تقتنيها مكتبة الإسكندرية من التلف أو الضياع، وهو يأتي أيضًا ردًا للتحدي الثقافي العالمي في ظل فقر المحتوى العربي على شبكة الإنترنت وضآلته مقارنة باللغات الأخرى، إضافة إلى ما يقدمه المشروع من خدمة فائقة لطلاب العلم والباحثين والأكاديميين و للجمهور عامة.
وأشار الدكتور إسماعيل سراج الدين إلى المكتبة الرقمية لـ "ذاكرة مصر المعاصرة" التي دشنتها مكتبة الإسكندرية أواخر عام، و"ذاكرة مصر المعاصرة" هي مشروع بحثي علمي يهدف إلى رقمنة كل المواد التي ترتبط بتاريخ مصر المعاصر؛ من صور، ووثائق، وأفلام، ونقود، وطوابع، وصحف، وغيرها، في الفترة من عام 1805 إلى عام 1981؛ بحيث تصبح المرجعية الرئيسية لتاريخ مصر، حيث أن الموقع الإلكتروني لذاكرة مصر المعاصرة يتميز بسهولة التصفح والبحث داخله وتنوع المداخل؛ ويستطيع الزائر الإبحار في تاريخ مصر عن طريق أكثر من مدخل رئيسي منها: حكام مصر، وموضوعات سياسية واقتصادية واجتماعية وفنية وعلمية، وأحداث هامة مرت بها مصر خلال قرنين من الزمان في كافة المجالات، وأخيرا مدخل الشخصيات العامة وهو يضم مجموعة من أبرز الشخصيات التي أثرت تاريخ مصر السياسي والثقافي والاجتماعي.
واستكمالاً لنجاحات مكتبة الإسكندرية على الصعيد الرقمي، وقّعت المكتبة ومؤسسة السميثونيان الأمريكية نهاية عام 2009، اتفاقية تعاون يتم بموجبها إنشاء "موسوعة الحياة" إقليمية في المنطقة العربية. يشير الدكتور سراج الدين إذ أن "موسوعة الحياة" مشروع دوليّ قائم بالأساس على الجهود التطوعية بدأ بتمويل خاص في الولايات المتحدة الأميركية عام 2007 بهدف جمع وتوثيق معلومات عن كافة أنواع الكائنات الحية على الأرض؛ من نباتات وحيوانات وكائنات دقيقة، والذين يقدر عددهم بحوالي مليون و 900 ألف نوع، خلال عشر سنوات، وإتاحتها مجانًا على الإنترنت للعلماء والباحثين والطلبة والمعلمين والجمهور العام.
وذكر الدكتور سراج الدين، في نفس سياق، أن الإنترنت أتاح مجالاً واسعًا للتواصل بين الشعوب والحضارات، إضافة إلى توفير المعلومات والمعرفة على نطاق واسع للجميع دون قيود، إلا أنه في هذا العالم الزاخر بالانفتاح على المعلومات الثرية المتوافرة على الإنترنت، لا يزال حاجز اللغة يمثل عائقًا كبيرًا أمام عدد ضخم من مستخدمي الشبكة المعلوماتية، نظرًا للمحتوى المتنوع الموجود عليها والذي يعد غير متساوٍ من حيث اللغات مع غلبة واضحة للغة الانجليزية، خصوصًا في المجالات العلمية مما يجعل الحصول على المعلومات غير عادل بين الشعوب المختلفة. لذا، بادرت الأمم المتحدة بإيجاد طريقة أكثر فاعلية لكسر الحاجز اللغوي بين الشعوب تختلف عن برامج الترجمة الآلية التقليدية، فأسفرت تلك الطريقة عن إنشاء لغة صناعية للحاسب الآلي يمكن من خلالها التمثيل المعرفي للمعلومات المكتوبة بلغة الإنسان بشكل يمكن للحاسب الآلي فهمه وتداوله عبر شبكة الإنترنت، فكانت تلك اللغة هي "لغة التواصل العالمية (Universal Networking Language = UNL).
وبذلك تعمل لغة التواصل العالمية على نقل المحتوى المعرفي المكتوب بلغة طبيعية ما إلى "تمثيل وسيط" في شكل شبكات دلالية بواسطة برنامج للترميز الآلي (UNL Encoder) ثم بعد ذلك يمكن توليد نص مكتوب بأي لغة طبيعية أخرى من تلك التمثيل الوسيط بواسطة برنامج للتوليد الآلي، وهكذا يمكن للغة التواصل العالمية أن تعمل وسيطا بين جميع اللغات الطبيعية لتقدم المعلومات المطلوبة للشخص الذي يبحث عنها بلغته الأم، مما سيكون البنية التحتية للغات المختلفة ليتم استخدامها في توزيع، واستقبال، وفهم المعلومات متعددة اللغات.
لتحقيق ذلك، تم إنشاء شبكة عالمية من فرق بحث وتطوير، يعمل بها متخصصون في علم الكمبيوتر لتطوير البرامج الخاصة بالنظام، ولغويون لتكوين المصادر اللغوية ودمجها مع نظام لغة التواصل العالمية. تعمل أيضًا مجموعات مختلفة من إدارات الجامعات والمراكز البحثية حول العالم تحت مظلة مؤسسة لغة التواصل العالمية الرقمية لتطوير نظام لغة التواصل العالمية تبعًا للغتهم الأم.
وفي هذا الإطار، أشار الدكتور إسماعيل سراج الدين إلى أن مكتبة الإسكندرية تستضيف مركز لغة التواصل العالمية الخاص باللغة العربية، مضيفا أنه رغم أن هذا المركز يعمل فيه فريق عمل صغير العدد من المتخصصين في تكنولوجيا المعلومات ومن اللغويين الحاسوبيين، إلا أن ما أنجزوه خلال الثلاث سنوات الماضية يعد إنجازًا كبيرًا نفخر به جميعا.
وقال إن مكتبة الإسكندرية تفوقت في كم الإنجازات وجودتها على الأطراف الدولية المشاركة في مشروع UNL باعترافهم جميعًا؛ حيث إن ما حققته يعد سبقا هائلاً في المعالجة الآلية للغات الطبيعية مع الأخذ في الاعتبار القدرة التصريفية والاشتقاقية العالية للغة العربية.
وترأست الدكتورة آمنة نصير، عقب ذلك، جلسة على هامش محور الثورة الرقمية حول "مستقبل اللغة العربية في ظل الرقمنة"، ونشطها كل من الدكتور أيمن الصياد؛ رئيس تحرير مجلة "وجهات نظر"، والدكتور عبد الرحمن بودلال؛ أستاذ علوم اللغة العربية بالمغرب.
وقال الصياد إن واقع اللغة العربية في عالمنا العربي سيء للغاية؛ فقليل من الناس يجيدونها، كما أنه هناك اتجاه لدى العرب بالافتخار بالتحدث باللغات الأجنبية وإهمال لغتهم الأصلية رغم أن اللغة إحدى عناصر القوة لأي مجتمع. وألمح إلى أن المتخصصين في علوم اللغة العربية تقع عليهم جانب كبير من مسئولية ضعف العربية لدى الأجيال الحالية؛ مطالبا بتبسيط طريقة تعليم اللغة العربية كما يتم في اللغات الأخرى، وليس تبسيط اللغة ذاتها.
وأضاف أن الاعتقاد السائد بأن الإنترنت يعمل على تدمير اللغة العربية اعتقاد خاطئ، مشيرا إلى أنه أتاح المعرفة على نطاق لا حدود له، وبالتالي أصبح البحث عن المادة، سواء كتب أو دراسات أو غيرهما، سهل وبسيط، بعكس ما كان يتم في الماضي.
وأكد بودلال أنه يتعين زيادة العمل على المعالجة الآلية للغة العربية، موضحا أن خدمة اللغة العربية لا بد أن تقوم عليها الدولة وتدعمها ماديا ومعنويا، وأن يكون هناك تنسيق بين المؤسسات والمتخصصين القائمين على اللغة العربية. وأشار إلى أن مادة الدراسات اللغوية أصبحت تدرس إلى جانب مواد العلوم الدقيقة في معظم، إن لم يكن كافة، الجامعات الأمريكية، مشددا على أن العربية لديها من القدرات العقلية ما يمكنها من ولوج العالم التقني الجديد.
وتناولت الجلسة الثالثة والأخيرة في محور الثورة الرقمية موضوع "حقوق الملكية الفكرية في ظل الرقمنة" والتي ترأسها هشام جعفر، وأفادت سوسن بابكر أن هناك طريقتين لحماية حقوق الملكية الفكرية في ظل الرقمنة؛ وهما: الحماية القانونية، والحماية التقنية.
أما الأولى فتعتمد على التحذير قبل إعادة استخدام المواد والمعاقبة على إساءة الاستخدام، إلا أن القوانين العربية ليس بمقدورها توفير الحماية الكافية للمصنفات التي تنشر في البيئة الرقمية، إضافة إلى تعقيد التشريعات نفسها.
وبخصوص الحماية التقنية، نوّهت إلى أن هذا النوع من الحماية هو المنتشر في الدول الأوروبية وتعتمد على وضع عقبات تقنية تمنع إساءة الاستخدام مثل الحماية من خلال استخدام كلمات السر. وبذلك فإن العالم العربي يواجه ضعف التشريعات في قوانين الملكية الفكرية في مجال النشر الإلكتروني وانعدامها في دول أخرى، لذا فإنه لا بد من مراجعة تلك التشريعات والقوانين على أن تشتمل على تفاصيل أكثر دقة تواكب الثورة الرقمية في العالم وتضع في حسبانها التطور التقني مما يضمن حقوق المؤلف ويحدد قواعد النشر الرقمي.
وأضافت أن الإعلام يقع على عاتقه مهمة نشر الوعي بين الجمهور في هذا الإطار، إضافة إلى ضرورة إيجاد آليات عربية لوضع تدابير تقنية تمنع التعدي على حقوق الملكية في ظل الرقمنة.
وقال الدكتور سمير بودينار إن إشكالية حقوق الملكية الفكرية في ظل الرقمنة مطروحة باستمرار منذ ظهور المصطلح، ولم يزدها العصر الرقمي إلا بروزا وحدّة، مضيفا أن البعض رفض تلك الحقوق - ماعدا جزئية نسبة الأعمال لأصحابها - بل وذهب البعض مثل الباحث الهولندي جوست سميرز إلى اعتبارها سرقة مطالبا بإلغاء حق الملكية الفكرية.
وأورد بودينار ما استناد عدد متزايد من علماء الاقتصاد إلى الدراسات للتأكيد على أن انتشار حقوق المؤلفين يعود بالفائدة على المستثمرين أكثر من الفنانين أو الممثلين أو المؤلفين، مضيفا أن الاقتصادي البريطاني مارتن كرتشمرز خلص إلى أن طرفا ثالثا هو الذي يدافع بشكل واسع عن حقوق المؤلفين؛ وهو المستثمرون وشركات الإنتاج.