فاطمة الزهراء فلا
جانب من الاجتماع

غاب أشهر " الحرافيش " عن الاحتفاء بذكرى ميلاد أديب نوبل نجيب محفوظ؛ الذي نظمته مكتبة القاهرة الكبرى بالزمالك مساء أمس، فلم يحضر محمد سلماوي رئيس اتحاد الكتاب العرب أو الأديب يوسف القعيد وكذلك د. يحيي الرخاوي، الذين كان من المقرر حضورهم سلفا.

في البداية أعرب محمد الشربيني، وهو أحد الحرافيش الذين لازموا محفوظ، عن خشيته من غياب محفوظ عن ذاكرتنا، قائلا أنه من الممكن في الأعوام القادمة ألا نتذكر "الاستاذ" لأن هناك تقلصا حادثا بين هذا الرمز والمجتمع؛ لا أعرف له سبب.

وأكد أن حرافيش محفوظ ومريديه مازالوا يحرصون على اللقاء كل يوم جمعة على النيل بالقرب من بيته، ويناقشون كل شهر رواية من رواياته، ويفتحون الباب لبعض الموهوبين لمناقشة أعمالهم.

ووجه الشربيني نداء إلى المسئولين ورجال الأعمال ومحبي مصر للبدء من الآن بالتحضير لتأسيس منتدى محفوظ الثقافي الدولي؛ يكون بمثابة كتيبة من مثقفي مصر في مواجهة هذا الإنحدار وإعادة الدور الحضاري القديم لمصر.

وطالب أن تكون هيئة مستقلة أو تابعة لمجلس الوزراء، وتقسم إلى شعب ولجان، وألا تقتصر على قراءة أعمال وفكر محفوظ وحده بل لجميع أعلام الثقافة المصرية الراحلين أو المعاصرين ، وأن يصدر عن المنتدى جائزة ومجلة وكتابات للشباب وأعمال في كل فروع العلم.

ووصف الشربيني شيخ الروائيين بأنه لم يكن مجرد أديب أو فنان بل سبيكة من معادن نفيسة متنوعة استطاعت أن تصل إلى ما وصلت إليه، موضحا أن محفوظ لم يقدم كتبا روائية فقط بل أرسى قاعدة مهمة لاستعادة مصر مكانتها الحضارية العالمية .

محفوظ والتصوف

تحدث خلال الندوة د. زكي سالم الذي رافق محفوظ طيلة 25 عاما حتى آخر يوم رحل فيه؛ بحثا عن علاقة محفوظ بالتصوف على ضوء عمله "أصداء السيرة الذاتية"، موضحا أن علاقة محفوظ بالتصوف قديمة جدا نراها في مقالاته الأولى ودراسته ، وقال أن كل من اقترب منه لاحظ مقدار زهده وترفعه عن أشياء كثيرة يتهافت عليها الكثير من البشر. وأن هذا المنحى أخذ يتطور ويتألق في شخصه وانتاجه بمرور الزمن وكثرة تأملاته، وفهمه لعلاقات البشر وإدراكه لمعنى الموت والحياة.

وقال د. زكي أن من يقرأ أعمال محفوظ بروية وتمعن يدرك أن رؤيته الفكرية ذات طبيعة ديناميكية، مشيرا إلى أن رؤيته خاصة ومتفردة فهو لا يكرر معاني ولا يعبر عن أحوال غيره ولا يتحدث عن مقام لم يصل إليه، لكنه يعبر عن حاله هو ويشير فقط إلى مقامه، وهذا التفرد في الرؤية علامة من علامات الطريق الصحيح الموصل إلى الحق سبحانه وتعالى، فكما يقول الصوفية "الطرق إلى الله بعدد أنفاس الخلائق". كما أن محفوظ كانت تبدو عليه أمارات صوفية مثل وضوح تجربة الحب لديه وهي أعمق تجربة حياتية ، فيقول ذات يوم " عرفت في مطلع الشباب الحب الخالد الذي يخلفه الحبيب الفاني".

وأشار د. زكي إلى عبارة مهمة لمحفوظ حين قال أنه بنى حياته كلها على الحب: حب الحياة، العمل، الناس، وأخيرا حب الموت. مؤكدا أن هذا الحب الشامل الذي يبدأ من مفردات الحياة الصغيرة حتى يشمل الحياة كلها، في حقيقته تجربة روحية عميقة.

واختتم حديثه بأن تصوف محفوظ هو تصوف من ذاق وعرف، تصوف لا يقبل الكسل ولا يعرف التراخي ولا يميل إلى الإعراض عن زينة الحياة التي أخرجها الله لعباده والطيبات من الرزق، مؤكدا أن انشغال محفوظ بالحياة لم يمنعه عن انشغاله باليوم الآخر ، ولم يمنعه اهتمامه بالموت من الاهتمام بالحياة.

لقاء الجمعة

المهندس حسن اسماعيل قال أن معرفته بمحفوظ بدأت في الـ 15 عاما الأخيرة من حياته ، وفكرته عنه قبلها كانت مختلفة ، وبعدها ارتبط به ارتباطا كاملا ، ورأى أن أعمال محفوظ ليست صعبة ولكنها تمتاز بأن قراءتها في كل مرة تعطيك فهما مختلفا وبالتالي الوصول لأعماقها يحتاج أكثر من قراءة .

وتميزت شخصية محفوظ – بحسب المتحدث- بالاستغناء نسبيا عن الآخرين ، فهو لا يريد شيئا من احد ودائما هو المطلوب ، وحينما أخبره صديق بأنه يريد إنتاج 30 حلقة من قصصه القصيرة، فاعتذر بحجة وجود مشاكل سابقة مع الضرائب لا يريد الدخول في مثلها ثانية، فأخبره أن المنتج سيدفع الضرائب، فظل قلقا طوال الجلسة وبعد انصراف الحاضرين قال للزميل "اصرف نظر عن هذا الموضوع".

واختلف معه د. يسري هاشم والذي أكد أن محفوظ لم يكن منفصلا عن المجتمع ، وتحدث عن "مجموعة الجمعة" التي كانت تلتقي بمحفوظ واللذين يوم رحيله وبعد أن ذهب المعزيين شعروا باليتم بدونه ، فقرروا المداومة على لقاء الجمعة وكأن محفوظ ما يزال بينهم.

المحامي مصطفى البشير طالب مريدي محفوظ أن يدونوا ندواته ولقاءاته، كما فعل أنيس منصور مع العقاد في كتابه "في صالون العقاد كانت لنا أيام".

صورة المرأة

ردا على مداخلة عن نظرة محفوظ للمرأة وأنها جاءت دائما شخصية سلبية، أكد د. زكي سالم أن نظرته للمرأة هذه نظرة تلفزيونية وليست نظرة محفوظ الحقيقية، مؤكدا أن كلمة "سي السيد" التي دخلت تراثنا؛ لم تدخل من قراءة أدب محفوظ بل من سينما محفوظ.

وأوضح د. سالم أن "أمينة" هي المرأة المصرية في هذا العصر الذي بدأ منذ دخول الإنجليز مصر، فهذا تاريخ أكثر منه واقع، وأن كل التطورات التي حدثت في المجتمع المصري تتضح في الثلاثية من هذه التطورات.

وقال: ذات مرة كنت أتحدث معه فقلت له أتصور أن "السيد احمد عبد الجواد" كان أسعد رجل في الدنيا بزواجه من "أمينة" المطيعة جدا، فهل تعتقد أن هذا هو الشكل الأمثل للزواج؟ فقال بشكل قاطع: لا، الرجل لا يريد امرأة مطيعة بل زوجة تشاركه الحياة.

بينما أوضح الشربيني أن والدة محفوظ كانت لا تقرأ ولا تكتب ولكنها استطاعت بناء شخصية محفوظ وصنعت منه نموذجا للتصالح، فكانت تذهب به إلى المتحف المصري، الحسين، وحتى المناطق القبطية ، وبهذا استفاد من الحكمة الشعبية الخالصة.

وأكد انه من خلال العلاقة بين أسرة السيد أحمد عبد الجواد وزوجته أمينة وأولاده، نجد أن شخصية الزوجة كانت لابد أن تكون هكذا في هذا المناخ ، وهو لم يكن يرصد واقع أسرة بل واقع مجتمع له علاقة بالاحتلال الإنجليزي، وحاول على هامش هذه الأسرة أن يلمح لما يحدث في المجتمع.

وفي سؤال لأحد الحضور هل ندم محفوظ على كتابة "أولاد حارتنا" قال د. زكي سالم أنه سأله ذات يوم هل توقع حدوث هذه الضجة عندما كان يكتب الرواية ؟ فأجاب: على الإطلاق ، وبحسب رأيه فإن الضجة صنعها بعض رجال الأزهر ووصل تقرير للرئيس جمال عبدالناصر عن الرواية ، مما جعل هيكل ينشرها كاملة في "الأهرام" دون حذف كلمة واحدة.

وكان محفوظ لا يرى روايته معادية للدين على الإطلاق ، وقال سالم أن محفوظ لم يحصل على جائزة نوبل عن هذه الرواية بل عن مجمل أعماله ، وعندما أرادوا نشر الرواية في حياة محفوظ للمرة الثانية أصر محفوظ على موافقة الأزهر عليها ، وقال شيخ الأزهر أن الأزهر لم يمنعها حتى يجيزها .

قفشات محفوظية

في نهاية الندوة روى محمد حمدي مدير مكتبة القاهرة الكبرى بعض قفشات محفوظ، فعندما أخبروه أنهم أقاموا له تمثالا بميدان سفنكس، جاءه ليراه ويبدو أنه لم يعجبه فقال: يبدو أن من عمله قد قرأ روايتي "الشحات" فقط.

مرة أخرى كان محفوظ يسير بالشارع وبينما يهم لركوب سيارة تاكسي ، وإذا براقصة تركب سيارة فارهة فقالت له: "شوف الأدب عمل فيك إيه!"، فرد عليها قائلا: "شوفي أنت قلة الأدب عملت فيكي إيه!".