تشهد الساحة الثقافية سيلا من الدواوين الجديدة لشعراء شباب، والتي يروج لها بأساليب عدة على رأسها الشبكة الاجتماعية الإلكترونية الشهيرة "فيس بوك" أو عبر المدونات الشخصية لأصحابها وحفلات التوقيع ، ولكن هذه الكثرة لا تعني لدى قطاع عريض من القراء زيادة في أعداد المبدعين ؛ حيث تتسم نسبة كبيرة من أشعار الشباب بغياب الموهبة الحقيقية واستخدام معاني غامضة واستدعاء مفاهيم غربية في الكتابة الشعرية ، وبعضها الآخر لجأ للعامية الشعرية الفجة .
" البنت اللي في آراميكس / بتفتح كل جواب / مقفول/ لمجرد شك بسيط الشكل/ ف صوت وحاجات ملياه/ واتخضت لما برن/ وردت أيوا ؟ آلو ؟/ رديت/ أنا قلبي ف علبة صفيح/ مكتوب براها / تاريخ الشحن / الاسم عليه بالكحل عيون / مش ممكن تتهجاه" ، من قصيدة لأحمد العايدي .
" لماذا لا آكل حزباً شيوعياً/ أو مدينة بأكملها ولتكن دمشق الشام/ لماذا لا آكل شيئاً كقاعة سيد درويش / التي بأكاديمية الفنون/ لماذا لا آكل شيئا نسيته بأحد الأحلام/ وبحثت عنه سدى/ في حلمي التالي / قرصني الجوع ولا زلت أسافر/ وأنا زاهد فيما تأكلون" من قصيدة لياسر عبداللطيف .
توجهت "محيط" لعدد من النقاد والشعراء من الرواد والشباب أيضا وسألتهم عن نظرتهم للدواوين الجديدة ، وهل اختفى جيل المبدعين الكبار ؟ ولماذا يدعم الناشر ديوان متوسط القيمة ويروج له بحماس ، والأهم كان التفكير في النقاد الذين غابوا وتركوا الساحة يختلط فيها الغث بالسمين .
محمد ابراهيم أبوسنة |
يرى الشاعر الكبير محمد إبراهيم أبو سنة أن ظاهرة إقبال الشباب على الشعر ونشر دواوينهم هي ظاهرة إيجابية وتشير إلى رغبة الشباب في تحقيق ذواتهم والتحرر من سيطرة المؤسسات الحكومية والخاصة، والتنفيس بعيدا عن الإعلام الذي لا يهتم بهم بما يكفي . وأضاف أننا في عصر يرغب الشباب في التعبير عن أنفسهم بحرية بعيدا عن المؤسسات الثقافية المصرية التي تسيطر عليها البيروقراطية ، والمؤسسات الخاصة التي تتحمس للمشاهير فقط .
ويضيف : اشجع الشباب على النشر الورقي أكثر من الإلكتروني ، فالإنترنت مازال وسيلة لا تحقق العلنية الكاملة للمنتج الإبداعي وله جمهوره الخاص ، بعكس الكتاب الذي يقدم الشاعر بشكل أفضل .
وعن انتشار العامية قال أبو سنة لـ"محيط" أنها ظاهرة مؤسفة إلى جانب ظاهرة اسوأ وهي اللغة الهجين التي مزجت العربية ببعض الألفاظ الأجنبية، ونتيجة لضعف القراءة لدى الجيل الحالي والإطلاع على التراث الشعري العربي فإن الشعراء الجدد لا يجدون مشكلة في سيادة العامية بأشعارهم ، ويتعجلون الشهرة ومن هنا يختارون الكتابة بالعامية ليحققون الإنتشار الكبير من قبل شرائح أعرض من الجمهور، بينما تحتاج الكتابة بالفصحى لجمهور له ذوقه وثقافته الأعلى.
يتابع الشاعر : سيطرة العامية تهدد الحركة الشعرية لأن الفصحى لغة تواصل العصور المختلفة بعمقها وقيمتها وثباتها ، بعكس العامية التي تتغير سريعا وتستوعب ألفاظا جديدة وتتجاهل ألفاظا أخرى ، وأؤكد أن الشاعر الذي يريد الإستمرار عليه التمسك بالفصحى في كتابته .
وبسؤاله هل يجب أن تكون هناك جهة رقابية لتنقية الدواوين الشعرية قبل صدورها، قال أبوسنة : الحل ليس في الرقابة لكنه في تنشيط الحركة النقدية وهؤلاء النقاد عليهم توجيه أصحاب المواهب الحقيقية وهم كثيرون بالفعل .
يسري عبدالله |
تجارب مميزة
يؤكد الناقد والأكاديمي د. يسري عبدالله أن الشعر فن له حضوره الأثير في الثقافتين العربية والعالمية حتى أن الشاعر الألماني "هلدرللن" يقول "ويبقى ما حققه الشعراء" ، ويلفت لأن هناك ثورة شعرية يمكن ملاحظتها تتسم بالثراء والتنوع بحيث تتجاور فيها الأشكال الشعرية المختلفة سواء كانت قصيدة تفعيلة أو نثر، كما أن شعر العامية المصرية يشهد بدوره ازدهارا كبيرا ولكنه ازدهار لا يواكبه حركة نقدية نشطة .
وقال الناقد : يمكنني أن أشير إلى تجارب شعرية مميزة مثل الشاعر محمد أبو زيد، تامر فتحي، محمد منصور وغيرهم، بالإضافة للتجربة المميزة لشاعر العامية الموهوب سالم الشهباني وكلهم شعراء شباب يعملون على مشاريعهم الإبداعية ويحاولون أن يعبدوا مساراً شعرياً خاصاً بهم. واعتبر أن العامية لا تعيب الشاعر في استخدامها إذا ما استطاع أن يوظفها جيدا في سياق النص الشعري ولم تكن مقحمة عليه .
اما عن لجوء الشباب للـ"فيس بوك" للترويج لكتاباتهم فرأى د. يسري أنها مسألة منطقية في جو خانق وصحف أدبية غير متطورة ، فأصبح الشعراء يعتمدون على أنفسهم في الترويج لدواوينهم الشعرية ، ولكنه دعا لألا ينشغل الشاعر الشاب بهذه الأمور عن إبداعه وكتابته .
العامية مع الفصحى
يرى الناقد الأكاديمي د . حسام عقل أن غزارة الإنتاج الشعري بتنوع قوالبه واتجاهاته ما بين الشعر الشطري والتفعيلي وثالث يتذرع بقصيدة النثر يدل على أن معين الشعر في مصر مازال يتدفق سيالاً، وقد تبلورت التجارب الشعرية الأخيرة بشكل عرف بقصيدة "الومضة" وهي قصيدة تتسم بالكثافة والإيجاز والقصر الشديد وهي تلائم القارئ المعاصر الذي لم يعد يجد نفسه ميالاً لقراءة المطولات والأعمال الضخمة.
حسام عقل |
وإقبال الشباب على كتابة الشعر على هذا النحو يتفق مع طبيعة العصر الذي تستثمر فيه فضائات الإنترنت واللغة السريعة واللمحة العجلة والصورة الشعرية الرامزة الموجزة المقتضبة وهذا يفسر سر إقبال الكثير من الشباب على نظم الشعر والمبادرة بنشر قصائدهم ، وتذكر بعض الأسماء اللافتة للنظر في المشهد الشعري الحالي ومنهم محمد سالم عبادة والذي عرف عربياً من خلال حضوره " المدهش " في مسابقة أمير الشعراء بأبو ظبي فضلاً عن كل من سمير فراج، ياسر أنور، فتحي عبد السميع وغيرهم.
ولا يرى د.عقل أن الكتابة بالعامية مشكلة بذاتها ؛ حيث يقول : لا شك أن ديوان شعر العامية له ميراث كبير في مصر والمنطقة العربية ولقد حققت قصائد احمد شوقي اختراقات نافذة بجانب أشعار بيرم التونسي وهو ما يؤكد أن الشكلين يتصاحبان ولا يعادي أحداهما الأخر. مضيفا : شعر العامية في مصر ينبض بأوجاع الأمة وآلامها وأشواقها فظهر في المشهد الشعري فؤاد حداد، وفؤاد قاعود، وصلاح جاهين وغيرهم ولا شك أن نزوح شريحة كبيرة من الشعراء الجدد لنظم شعر العامية هو امتداد لهذا الميراث ، فضلاً على أن العامية قادرة على النفاذ لشريحة أكثر أتساعاً من المتلقيين والقراء وهو ما يهيئ لأصحابها قدراً من الذيوع قياساً بالشعر الفصيح.
وبسؤاله عن الناقد الغائب في مشهد الشعر في مصر ، قال د. حسام أن جيل النقاد الشباب ربما هم الأكثر قدرة على التعامل مع أشعار الشباب بحكم التقارب العمري ، في الوقت الذي قصر فيه النقاد الكبار لأنهم دأبوا على التعامل مع المرحلة الستينية والسبعينية من الأدب فقط ، ودعا لأن تناقش الرسائل الجامعية الادبية تيار الشعر الجديد بدلا من الدوران في فلك الأسماء الكبيرة فحسب .
تهم جاهزة
الشاعر الشاب زيان وزيري هو أحد الأسماء التي ظهرت مؤخراً على الساحة الشعرية عقب صدور ديوانه الأول "هل فات أوان الموت..ماذا سنفعل إذن"، وهو خريج كلية الهندسة جامعة القاهرة، ويعمل في مجال دراسة المشروعات.
تحدث وزيري لـ"محيط" عن ظروف إصدار ديوانه الأول قائلاً أن فكرة النشر لم تدر في ذهنه وان نشره لديوانه جاء بناء على تشجيع زملائه في الوسط الأدبي، واعتبر أن دور النشر في مصر رغم كثرتها إلا أنها في النهاية هي دار نشر واحدة وتتمثل في "الكاتب" فحسب ، مؤكدا أنه حريص على القراءة لغيره من الشعراء الشباب، وأن كل شاعر يتميز بأسلوب مختلف هو شاعر جيد.
زيان وزيري |
يعتبر الشاعر الشاب أن رأي الجمهور في أشعاره هو الأهم ليستمر في الكتابة، بينما رأي الناقد هو الذي يضع العلامات علي الطريق السليم، أما رأي غيره من الشعراء فهو نصيحة ثمينة يجب أخذها في الاعتبار. أما قصيدة النثر فيعتبرها الأنسب لهذا العصر مشيرا إلى أنها ليست مستوردة من الغرب لكنها موجودة في التراث القديم في النثر الصوفي وفن المقامات وغيره وما فعله أدونيس وأنسي الحاج ما هو إلا وضع أسس لذلك الكيان الأدبي .
ويحرص وزيري على قراءة الشعر لعدد من الشعراء الكبار مثل محمد الماغوط، وأدونيس، ومحمود درويش ، ويعجب بتجربة الشعراء الشباب محمد أبو زيد، محمد منصور، أحمد عبد الجواد، وسالم الشهباني.
وعن استخدامه اللغة العامية يقول أنها تشبه الدعابة التي تلاطف بها القارئ و تفاجئه بها, ويخضع استخدامها لضوابط بحيث لا تطغى على الفصحى، معتبرا أن القاريء يكون مبتهجا لو لاحظ مفرداته اليومية في القصائد ، كما ينفي وزيري تهمة التسرع وقلة الإطلاع عن الشعراء الشباب قائلاً أنه كلام يتردد بصورة مجحفة لهم والدليل على ذلك أن كل واحد منهم لديه مكتبته الخاصة الزاخرة بالكتب المختلفة.
ويؤكد وزيري أن فكرة النشر كانت ثانوية بالنسبة له بينما كانت كتابة الشعر وقراءته في المرتبة الأهم، ويضرب مثلاً قائلاً أن لديه أكثر من ثلاثة دواوين منذ بدأ كتابة الشعر منها قصائد عموديه وتفعيلة ونثر، ولم يفكر في نشر أي منها طوال السنوات الماضية، وأنه بصدور ديوانه الأول أصبحت تلك الدواوين بمثابة المحاولات الأولي وليس المطلوب أن يقوم كل كاتب بتقديم جميع محاولاته ليثبت أنه غير متسرع في إصدار كتابه.
ونقرأ من ديوانه :
قلبي لا يدمع فانفجر
حزين مثلي تماما
يروي قصة فارس يطمح في فتح بلاد الزيتون
يمنح نفسه لقب حزين لأن جواده الخيالي ليس له سرج
لأنه لا يملك سيفا خشبيا كالعبد عنترة
يختبئ دائما داخل معطفه العاري من القماش
حزين لأن حبيبته لا تلبس الأسود في كل لقاء
وجدته التي تركت خلفها ضرع الماء
وأطباق التمر
ومرافق الطيبين
لا يجد لها التفاح ليتقرب به فوق مائدة المصلين
لا يحمل داخله رائحة العطر
ودفء المبيت
إنه لا يجد في مخيلته شاشة تلفزيونيه كي يتتبع مسلسل الثامنة مساءا
أو ميناء رمليا لسفينة لا تعرف الطريق
إنه مثلي
مثل قافلة أبو سفيان لا تهاجر إلا من وراء حجاب
مثل أروقة الشعر
تكره قصائدي الحزينة
وتكره نشوتي
مثل حبيبتي السمرا