قصة عبدة
د. صلاح فضل
صلاح فضل |
ما يغرينا بصحبة بشار في أشعاره أنها كاشفة عن طبيعة الحياة في المجتمع العربي خلال هذه الفترة الباكرة من تاريخه. ومن ذلك قصص بشار مع محبوباته، وأهمهن عبدة. روى الأصمعي قال: كان لبشار مجلس يجلس فيه يقال له البَرَدان، فبينما هو في مجلسه، وكان النساء يحضرنه، إذ سمع كلام امرأة، يقال لها عَبْدَة في المجلس فدعا غلامه فقال: إني علقت امرأة، فإذا تكلمت فانظر من هي واعرفها، فإذا انقضى المجلس وانصرف أهله فاتبعها وكلمها واعلمها إني لها محب، وأنشدها هذه الأبيات وعرّفها إني قلتها فيها:
قالوا بمن لا ترى تهذي فقلت لهم
الأذن كالعين توفي القلب ما كانا
ما كنت أول مشغول بجارية
يلقى بلقيانها رَوْحًا وريحانا
يا قوم أذني لبعض الحي عـاشقة
والأذن تعشق قبل العين أحيانا
فأبلغها الغلام الأبيات فهشّت لها، وكانت تزوره مع نسوة يصحبنها، فجاءت إليه في نسوة خمس، قد مات لإحداهن قريب، فسألته أن يقرأ شعراً يَنُحْنَ عليه به، فوافينه وقد احتجم، وكان له مجلسان، وقد قال لغلامه: أمسك عليّ بابي واطبخ لي وهيّيء طعامي وطيبه، وصفّ نبيذي، فإنه لكذلك إذا قرع الباب عليه قرعاً عنيفاً، فقال: ويحك يا غلام، انظر من يدق الباب دقّ الشرط، فنظر الغلام وجاءه فقال: خمس نسوة بالباب يسألنك أن تقول شعراً يَنُحْنَ فيه، فقال: أدخلهن، فلما دخلن نظرن إلى النبيذ مُصَفَّي في قنانيه، فقالت إحداهن: خمرة، وقالت الأخرى زبيب، وقالت الثالثة: معُسَّل، فقال لهن بشار: لست بقائل لكنّ حرفاً حتى تطعمن من طعامي وتشربن من شرابي، فتماسكن ساعة، وقالت إحداهن: فما عليكن من ذلك؛ هذا أعمى، كُلنَ من طعامه واشربن من شرابه وخذن شعره، ففعلن، وبلغ ذلك الحسن البصري فعابه وهتف به، فبلغ ذلك بشاراً، وكان الحسن يلقب القسّ، فقال فيه بشار:
لما طلعن من الرقيق
عليّ بالبَرَدان خمسا
وكأنهـن أَهلَّةُ
تحت الثياب زففن شمسا
باكرن طيب لطيمة
وغُمسْنَ في الحادي غمسا
فسألنني من في البيوت
فقلت ما يحوين إنسا
ليت العيون الناظرات
طُمِسْنَ عنا اليوم طمسا
فأصبن من طرف الحديث
لذاذة وخرجن مُلْسَا
لولا تعرضهن لي
يا قَسُّ كنتُ كأنتَ قَسَّا
والقصة مكتنزة بالإشارات الثقافية الهامة، عن النساء وصنعة النوح والندب، وعن الشاعر وما ينتظره من شرطة أو يصنعه من شروط، وعن العمى وما يجيزه، وعن السر وما يفشيه.
** منشور بجريدة "الاتحاد" 28/10/2009