فاطمة الزهراء فلا

نقطة عبور

خطورة تهذيب التراث

جمال الغيطانى

خلال أزمة ألف ليلة الأخيرة،‮ ‬والتي حسمت بقرار من النائب العام المستشار عبدالمجيد محمود،‮ ‬الذي سوف يذكر اسمه طويلاً‮ ‬في سجل المدافعين عن الثقافة وعن الحرية،‮ ‬في هذا الخضم صدرت آراء شديدة الخطورة تقول بتهذيب التراث وتنقيته من الألفاظ التي توصف أنها خارجة،‮ ‬ودهشت أن بعض هذه الآراء صادرة عن أساتذة كنت أظن أنهم مدافعون عن احترام التراث والحفاظ عليه‮. ‬أذكر منهم علي سبيل المثال الدكتور أحمد درويش الذي وقف إلي جانب الرأي القائل بحذف العبارات الخادشة للحياء والخارجة عن السياق من وجهة نظره،‮ ‬ولأسباب عديدة كانت تصريحاته هو بالذات صدمة لي،‮ ‬ولكن تكرار هذه المواقف من البعض يدعونا إلي الوقوف في مواجهة هذا الرأي الخطير الذي يهدد بتدمير التراث والاجهاز عليه،‮ ‬بل أن الأمر يمس النصوص الدينية‮.‬
ان ترحال النص من زمن إلي آخر يجب أن تحترم شكله وجوهره،‮ ‬ذلك أنه أنتج في مجتمعات لها ظروف بعضها يندثر والعديد منها يختفي،‮ ‬أقصد الظروف المحيطة،‮ ‬لكن النص المكتوب إذ ينتقل من زمن إلي آخر فلابد من الحفاظ علي لغته ومضمونه،‮ ‬فإذا وصل إلي عصر معين تتغير فيه القيم عن تلك التي كانت سائدة وقت كتابته،‮ ‬فلابد من الحفاظ عليه وحمايته من العبث به،‮ ‬سواء كان ذلك بالحذف أو الإضافة،‮ ‬أن معني التدخل تغيير النص علي مستوي‮ ‬الشكل والمضمون،‮ ‬وبالتالي تنتهك حرمة النصوص،‮ ‬وتنتفي قيمتها،‮ ‬لن نقرأ النص كما كتب،‮ ‬انما سنقرأه كما يريد له المتشددون أن يكون،‮ ‬وهؤلاء ظواهر عرضية،‮ ‬فما يرفضه البعض الآن سيقبل في المستقبل،‮ ‬فإذا قبلنا بالضغط من هؤلاء الجهلاء،‮ ‬قصيري النظر أو المتطلعين إلي عوامل تجارية،‮ ‬منها ضمان توزيع النصوص التراثية في الأقطار العربية التي يسودها التشدد والتي كان ثراؤها وبالاً‮ ‬ثقيلا علي الثقافة العربية بتصديرها القيم المتخلفة إلي الأقطار المتقدمة حضارياً‮ ‬وثقافياً،‮ ‬هذا ما جري في سوق نشر التراث بالمراكز المهمة المؤثرة لأكثر من قرنين من الزمان،‮ ‬سواء في بيروت أو القاهرة أو بغداد التي كانت حتي تسترد مكانتها في الثقافة العربية بعد زوال الاحتلال‮. ‬لقد جري تدخل خفي ضد موسوعة الفتوحات المكية للشيخ الأكبر ابن عربي والتي كانت قد بدأت أجزاؤها في الصدور عن الهيئة المصرية العامة للكتاب بتحقيق الدكتور عثمان يحيي،‮ ‬صدر أربعة عشر مجلداً،‮ ‬وفقد جزءان مخطوطان اختفيا بعد أن سلمها المحقق الذي وافته المنية قبل أن ينجز تحقيق الفتوحات،‮ ‬ربما كان تدخلاً‮ ‬مباشراً‮ ‬قد جري من الدول الثرية التي تسعي إلي إضعاف دور مصر الثقافي،‮ ‬وإلي اخفاء المصادر الصوفية الكبري،‮ ‬وربما اراد المسئول عن الهيئة وقتئذ ارضاء أصدقائه هناك،‮ ‬المهم أن تأثيراً‮ ‬سلبياً‮ ‬جري،‮ ‬ولذلك أري ضرورة تصدي الهيئة إلي تحقيق النصوص الكبري في الفلسفة الإسلامية،‮ ‬في التصوف،‮ ‬أن تقدمها مرة أخري إلي القراء مواصلة للدور المصري الذي أسس لصناعة الكتاب من خلال اصدارات دار الكتب،‮ ‬كما أناشد الدكتور فوزي فهمي أن يعيد طباعة الموسوعة الجليلة‮ »‬الشفاء‮« ‬لأعظم فلاسفة الإسلام ابن سينا والتي بدأ تحقيقها عام تسعة وأربعين ولم تتم حتي الآن،‮ ‬يشجعني علي ذلك أنه أقدم علي نشر الأعمال الكبري كاملة وبدون حذف علامة ترقيم واحدة،‮ ‬أعني خطط علي باشا مبارك،‮ ‬والآن‮ »‬المغني‮« ‬للقاضي عبدالجبار في الطريق،‮ ‬ليس من المعقول أن تقدم طهران علي اعادة طبع ما انجزته مصر في النصف الأول من القرن الماضي بالتصوير،‮ ‬وألا تصدر هذه الأعمال للقاريء المعاصر في مصر،‮ ‬من هنا كانت فكرة سلسلة الذخائر التي اقترحتها عام أربعة وتسعين علي طيب الذكر حسين مهران،‮ ‬الدور الرئيسي لهذه السلسلة اعادة تقديم المسكوت عنه في التراث،‮ ‬المحجوب لأسباب نعرفها كلنا،‮ ‬خاصة المهتمين بالنشر وطباعة التراث خاصة،‮ ‬لقد تم حجب أعظم ما انتجته الحضارة الإسلامية وعلي مصر أن تعيد تقديم ما اختفي منه بسبب استشراء التشدد والجهل،‮ ‬وغوغاء الشخصيات الراسبوتينية التي تعتلي مصاطب أجهزة الأعلام الآن وتملأ الدنيا نهيقاً‮ ‬مؤذياً‮ ‬ومزعجاً‮ ‬ضد الثقافة والمثقفين،‮ ‬إن تقديم نتاج الحضارة الإسلامية العربية واجب انساني وثقافي،‮ ‬لكن عندما نقدمه يجب أن نحترمه وأن نعيده إلي القراء تماما كما أنتج،‮ ‬وكما أبدع،‮ ‬اما الحذف فهو التدمير عينه للذاكرة وللثقافة معا‮.‬