فاطمة الزهراء فلا


شيء من الشهد.. كثير من الدموع


مع غياب عكاشة، تفقد مصر أحد أركان ما تبقى من قوتها الناعمة بينما تتآكل مكانتها وأوزانها واحترامها في محيطها.

بقلم: عبدالله السناوي

في ذروة الوهج خُيل إليه أنه في سباق مع الزمن، الذي قد يضن عليه بدوام الموهبة والقدرة على كتابة التراجيديات وإثارة الدهشة والإمتاع.. تملكته في نهاية الثمانينيات خشية أنه قد لا يتمكن من أن يحلق عالياً مرة أخرى إلى حيث لم يسبقه أحد.

كان قد بدأ لتوه في كتابة الجزء الثالث من ملحمة «ليالي الحلمية».. وكان النجاح مدوياً بصورة غير مسبوقة وشوارع القاهرة تبدو خالية أثناء عرض حلقاتها.. وظن أن بوسعه أن يعطي كل ما لديه مرة واحدة، فأخذ يكتب نصوصاً تليفزيونية وروائية ومسرحية وسينمائية في نفَس واحد.. كأنه يسابق الزمن، وبداخله شعور عميق أن الوهج قد ينطفئ، وأنه إذا لم يكتب الآن، فربما لا يتمكن من الكتابة مستقبلاً بالمستوى ذاته، الذي خلب مشاعر الرأي العام.

أثار حوارات معمقة حول الأفكار التي طرحتها عن تاريخنا الحديث والمحطات الرئيسية فيه.. ولكن ظنونه لم تكن في محلها.. كانت موهبته استثنائية وفريدة، أسست للكتابة الدرامية باعتبارها أدباً رفيعاً، أو فرعاً جديداً من الأدب، على ما قال وقتها الدكتور يوسف إدريس.. وهذا المعنى دفع محمود السعدني إلى أن يصفه بـ"المعلم"، الذي يسيطر على الدراما ويدفع بها إلى ذرى عالية ورفيعة، ويطلق طاقات الإبداع والتألق في فريق العمل، ويعيد اكتشاف المواهب الفنية، كأنها تمثل للمرة الأولى.

في آخر أعماله التليفزيونية "المصراوية" عاد أسامة إلى أجواء الحلمية ولكن في ريف الدلتا، لا في حي شعبي، وفي أزمان أخرى سبقت ثورة (1919).. وهو عمل ملحمي قيمته الفنية عالية، لكن لم يتسن له أن يحصل على ما يستحق من اهتمام ومشاهدة.

في "المصراوية" تبدت ـ مرة أخرى ـ مواهب عكاشة في كتابة المونولوجات الدرامية العميقة والمؤثرة التي تتجلي فيها مواهب الممثلين وقدراتهم الفنية، كأنه في الكتابة الأخيرة قد عاد إلى كامل لياقته الفنية في الدراما التليفزيونية.

قلق أسامة أنور عكاشة الإنساني والفكري والفني، وخشيته من سباقات الزمن، من أسرار تألقه من مرحلة إلى أخرى.. هو كاتب في حالة قلق دائم ومراجعة دائمة، التساؤلات تسبقه إلى أعماله، محاولاً أن يكتشف الإجابات في عمق التجربة الإنسانية، من داخل أبطاله، وهواجسهم التي تتماهي ـأحياناًـ مع هواجسه هو شخصياً.. ويتبدى ذلك بأوضح صورة في مسلسل "أرابيسك".

سؤال الهوية القلق عند بطله (حسن- الذي جسده صلاح السعدني: من نحن بالضبط، عرب أم فراعنة أم أوسطيون أم "بزرميط"؟) يلخص أزمة أسامة أنور عكاشة نفسه، فقد بدت الأمور أمامه متناقضة واعتقاداته لا تتسق مع ظاهر التطورات حوله، خاصة مع أزمة احتلال الكويت.

راودته الشكوك في سلامة الفكرة القومية والانتماء للعروبة والأسئلة القلقة عكست محنته، التي التقطها مبدع آخر هو الشاعر سيد حجاب في أغنية من ألحان عمار الشريعي تصاحب تترات بداية ونهاية المسلسل: "ويرفرف العمر الجميل الحنون.. ويفر ويفرفر بدقة قانون.. وندور نلف ما بين حقيقة وظنون".. إنه القلق الذي يعترف بأنه كان هناك عمر جميل وحنون، وأنه يفر منا ويضيع، ونضيع معه ونتخبط بين الحقيقة والظنون والشكوك.

هذا القلق الفكري والفني هو الذي ارتقي بأعمال عكاشة إلى مصاف التراجيديات الكبرى، فالقلق طبيعي وغير مفتعل، وإخلاصه لفنه والحقيقة معاً نزع عن مثل تلك الأعمال روح الخفة أو الدعاية. هو رجل لديه أسئلة تقلقه، ويبحث عن إجابات تقنعه بوسائل الفنان.. لكن الأسئلة تظل تراوح نفسها وتضغط على روحه، فلا إجابات يقينية أو أخيرة.

يهاجم في مقالاته الفكرة العروبية، ولكنه يعترف بأنه عروبي بالثقافة، ويهاجم العروبة السياسية، ولكنه يلتزم برمزها الأكبر في القرن العشرين جمال عبدالناصر، كانت مشكلته أعمق من أن تلخصها عبارة واحدة أو استخلاص يكتب على عجل.. هو رجل غاضب على ما آلت إليه مصر، ويراجع بعض اعتقاداته، يسأل حائراً، ويحاول أن يجيب، ثم ينظر مرة أخرى في إجاباته.

المثير للالتفات في ظل ذلك كله أنه ظل وفياً لجمال عبدالناصر.. وهذه مسألة تستحق التوقف أمامها.. فالعلاقة فريدة وعميقة، وتكاد أن تكون بالنسبة إليه شخصية.. وقد روي بنفسه قصة لها مغزاها.. فقد كان في أواخر الستينيات غاضباً على نظام جمال عبدالناصر، وعلى الأسباب التي أدت إلى الهزيمة العسكرية الفادحة، وكان يحمّله شخصياً مسؤولية ما جرى.

وذات مرة كان يردد، مع مجموعة من أصدقائه الشخصيين، مثل هذه الانتقادات أثناء التجوال في حي مصر الجديدة، وفجأة مر بجوارهم موكب الرئيس، فإذا به يجري وراء سيارته، مع أصدقائه الذين كانوا ينتقدون عبدالناصر بعنف ظاهر قبل لحظات، هاتفين باسمه من قلوبهم: "ناصر.. ناصر".. وظلت تلك المشاعر العميقة تصاحب عكاشة حتى نهاية الرحلة.

تغيرت الدنيا وانقلبت حسابات السياسة والمصالح بعد أن راحت أيام جمال عبدالناصر، ولكن لم تغادر هذه الصورة مشاعره أبداً.. كان مستعداً لنقد جوانب جوهرية في تجربة جمال عبدالناصر، بل ونفيها بصورة كاملة وحادة، مثل توجهاته القومية العربية، ولكنه لم يكن مستعداً، أو متقبلاً، على أي نحو، أو بأي أسلوب، الانتقاص من قدر عبدالناصر نفسه، فالقضية هنا تختلف، فعبدالناصر يمثل عنده صورة الأب، قد تختلف معه، قد تراجع بعض مواقفه، ولكنه يظل يمثل لك معنى الوجود.

ومن مفارقات القصة أن محمد حسنين هيكل كان المحاور الرئيسي لعكاشة في ظنونه وشكوكه، وما بدا أنها اعتقادات جديدة.. والعلاقة بينهما عميقة إلى حد أن بعض أصدقاء عكاشة، ممن يعرفون ثقل تأثير هيكل عليه إنسانياً، طلبوا -قبل ثلاثة شهورـ تدخله لإقناع عكاشة بالعودة لتناول العلاج الضروري، وكان عكاشة قد توقف من فرط الألم واليأس من الشفاء عن أخذ هذا العلاج وعندما دعاه هيكل للعودة إلى تلقيه استجاب على الفور.

ولكنه شك في أن يكون نجله الأكبر هشام نقل حالة الامتناع عن تلقي العلاج إلى توأمه الفني محفوظ عبدالرحمن.. وشك في أن يكون لي صلة بتدخل هيكل.. ولكن محفوظ عبدالرحمن علق ملخصاً الأجواء الإنسانية بجملة واحدة: "كلنا بنسمع كلامه".

لم يكن عكاشة سوى نفسه، أخلص لفنه، وأخلص لتاريخ بلده، وأخلص لأمته العربية، حتى لو انتقدها بعنف، وحاول أن ينفي أي صلة سياسية بها، فالإخلاص –هنا- يتجاوز بكثير الشعارات السياسية المباشرة.. فهو أسس للدراما العربية، ولعب دوراً جوهرياً في تشكيل الوجدان العربي العام خلال العقود الثلاثة الأخيرة، كما لم يفعل أديب أو روائي عربي آخر.. وبعض النقد العنيف هو من فرط الحب والإحباط فيه.. ورغم هذا النقد العنيف، فإن أسامة أنور عكاشة احتفظ بقيمته الكبيرة كحارس صلب وكمؤرخ درامي بارع لتاريخنا الحديث السياسي والوجداني معاً.

فيه شيء من أستاذه نجيب محفوظ، إخلاصه لفنه لا يقارن على أي وجه مع ما يكتبه للصحف أحياناً، فالإبداع قضية أخرى، ورسالة لا تهاون فيها، قد تختلف مع آرائهما السياسية، هذا لا يهم كثيراً، ولكنك لا تمتلك غير أن تعترف ببصماتهما العميقة على تجربتك الإنسانية والوجدانية.

لنجيب محفوظ بالذات تأثير خاص على مسيرة أسامة أنور عكاشة، فقد مضى على طريقته بأدوات مختلفة ورؤى جديدة في الكتابة الدرامية للتاريخ المصري الحديث، وحاول أن يعيد اكتشاف التاريخ بالدراما. وعلى نهج "ثلاثية نجيب محفوظ" مضى أسامة في كتابة "ليالي الحلمية" ـ تاريخ عائلة وتاريخ مصر، وصعود وسقوط نظم وطبقات، ولكن أسامة بدا أقرب إلى الناصرية في قراءته للتاريخ المصري ومفاصله الرئيسية فيما بدا محفوظ أقرب إلى القراءة الوفدية للتاريخ.

كلاهما ارتبط بحقبة ثورية مختلفة، وفيما كان مصطفى النحاس هو الأب عند محفوظ كان عبدالناصر له المكانة ذاتها عند عكاشة.. الذي تبدت في أعماله أجواء حنين لحقبته وعصره، حتى وإن اختلف مع بعض أطروحاتها ومواقفها.. ومن أبرز هذه الأعمال: "رحلة السيد أبوالعلا البشري"، كأنه المؤلف نفسه ـ "دون كيشوت" جديد تصدمه التحولات في المجتمع والخلل الفادح في القيم التي تحكمه.. وفي "ضمير أبلة حكمت" و"زيزينيا" و"وقال البحر" بدت الأجواء سكندرية، وتجلت في صلب العمل الدرامي أجواء فلسفية عن حركة الأيام وتحولات العصور والبشر، وشيء من الزواج الاستثنائي بين البشر والحجر والبحر.

كان أسامة مشغولاً في أعماله بتراجيديات الصعود والسقوط، وفلسفة الحكم ونوازع البشر فيها ("عصفور النار" مثالاً).. هو فنان عنده حنينه الخاص، ولديه في الوقت ذاته استشراف لما قد يأتي غداً.. وفي "الراية البيضا" تتجلى عبقرية الاستشراف بصورة تدعو للدهشة، فقد لمس بعمق فكرة تدهور قيمة الجمال في بلادنا تحت وطأة سوقية الطبقات الصاعدة الجديدة، (التي تمثلها في المسلسل فاطمة المعداوي- التي لعبت دورها سناء جميل)، داعياً إلى عدم رفع الرايات البيض أمامها، وكان رمز الممانعة عنده شخصية (الدكتور مفيد أبوالغارـ الذي لعب دوره جميل راتب).

ومن مفارقات ما جرى عند محاولة هدم مستشفى الشطبي الجامعي بالإسكندرية أن الدكتور محمد أبوالغار كرر الموقف ذاته الذي استشرفه أسامة.. وبدت الوقائع متقاربة بصورة مذهلة: هدم مستشفى تاريخي في الواقع يقابل هدم فيلا لها قيمة أثرية بالمسلسل، أستاذ جامعي وطبيب له وزن دولي يتصدي لهدم المستشفي وكشف الذين يقفون وراءه.. يقابل سفير سابق في الخارجية بالمسلسل..

وعندما سألت عكاشة عما إذا كان يعرف الدكتور أبوالغار قبل كتابة المسلسل، أجاب على الفور "لا.. عرفته بعد ذلك"، لافتاً إلى تلك الحقيقة: "مصر لم تعدم أبداً مثل هذه الشخصيات.. انظر حولك ستجدها".

فيما بعد كتب أسامة عن الواقع الذي بات أبشع من الكوابيس التي يتصورها خيال فنان أو أديب.. وبسبب صدقه الفني والإنساني لم تكن رحلته سهلة، فقد شنت عليه حملات ضارية في "أخبار اليوم" لمنعه من كتابة فيلم عن حرب أكتوبر، بدعوى أنه ناصري، سوف ينحاز إلى عبدالناصر ضد السادات، وكان ذلك افتراء استباقياً على أديب كبير بوصلته الوحيدة الوطنية المصرية.

وعندما يغيب اليوم فإن مصر تفقد أحد أركان ما تبقى من قوتها الناعمة في وقت تتآكل فيه بصورة فادحة مكانتها وأوزانها واحترامها في محيطها، كأن الرحلة مع نهايتها فيها شيء من الشهد والكثير من الدموع.