فاطمة الزهراء فلا



رحل وترك أبطاله يتامى

محاولة رثاء فاشلة


رغم الشهرة الكاسحة لعكاشة، لم تلق أعماله الأدبية نفس نجاح أعماله الدرامية، وقليلون من يعرفون أنه بدأ كاتب قصة.


بقلم: هشام بن الشاوي

تذكرت مقطعا في رواية "بداية ونهاية" لنجيب محفوظ، يصف فيه قميص رب الأسرة، الذي فارق الحياة قبل لحظات، في حين مازال قميصه مبتلا بعرقه الذي لم يجف بعد.. تذكرت هذا المشهد، وأنا أعيد تشغيل شريط حواري الأول مع عميد الدراما العربية، الكاتب الكبير أسامة أنور عكاشة.

سيجف العرق، لكن سيبقى صوتك، أيها الغالي.. حيا، نابضا، شاهدا على خسارة كبيرة بالنسبة لي، فلولاك ما تورطت في محبة السرد.

وصلني خبر رحيل أنور عكاشة في إيميل مقتضب، تحت عنوان "عاجل"، من صديق يعرف أنني مهووس بأسامة حد عبادة البطل، لكن ما فتنني به -منذ بداية التسعينات- عبقريته السردية/الدرامية.. بينما ما زلت نادر الاهتمام بمقالاته وتصريحاته النارية.

كان الخبر بدون تفاصيل، وهكذا وجدتني مرتبكا، غير مصدق، غير قادر على كبح جماح دموعي، ودون حتى محاولة التأكد من الخبر.

ما آلمني أكثر أنني اعتبرت نفسي مقصرا في حقه -رغما عني، ولأسباب قاهرة- منذ أن علمت بخبر دخوله غرفة العناية المركزة. لم أتمكن من الاتصال به هاتفيا، أو على الأقل إرسال رسالة قصيرة.. تدعو له بالشفاء العاجل. أتألم لأنه رحل دون أن أسمع صوته لآخر مرة، وأتساءل: هل أحذف رقم هاتفه المحمول ورقم هاتفه السكندري الثابت؟ ماذا سأفعل بهما ومن سيرد علي؟

هكذا ترحل دون أن أسمع صوتك مرة أخرى، وأنت تردد كالعادة: "واخذ بالك" لتتأكد من انتباهي.

ما أبشع ظلم ذوي القربى !

ثمة ما هو مؤلم أكثر من فقدان الأحبة، وهو الإساءة إليهم، التي لا تنسى.. ولا تغتفر، في حين نتعود على غيابهم، ونجد بعض السلوى. ما آلمني أكثر أن بعض الحاقدين والجهلة لم يستسيغوا نشر خبر تكفل الرئيس حسني مبارك بعلاج أسامة أنور عكاشة على نفقة الدولة، في جريدة مصرية خصصت -الآن- ملفا عن الفقيد، ومن قبل، أجازت نشر تعاليق ركيكة، تافهة وفي منتهى النذالة، وقد تعودت الصحيفة على السماح بنشر هكذا تعاليق، رغم وجود بروتوكول، أول من يخرق بنوده الجريدة نفسها.

لو كانت موقعا خليجيا.. لن نلوم زوار الموقع، لأن لهم أسبابهم الخاصة لكراهية الكاتب. وما يثير الشفقة نشر "إيلاف" تعاليق تهاجم عكاشة دون مراعاة لحرمة الموتى، (فلتحيا حرية التعبير وديموقراطية النشر!)، في حين تُحذف التعاليق التي تهاجم عاهرات الفيديو كليب!

هذه الجريدة المصرية المحترمة قامت بتشويه مقاربتي لرواية "جنة مجنون" لأسامة أنور عكاشة، بل إن محرر الصفحة الثقافية تصرف في مقدمتها بغباء لا نظير له، مما جعل أحد القراء يتعجب لأنني لا أفرق بين أولى روايات الكاتب وآخرها، فراسلت الجريدة.. طالبا نشر المادة كاملة أو حذفها، لا سيما وأن النشر في نسختها الإلكترونية وليس ورقيا، ولم تبال الجريدة برسالتي.

ما أقسى أن تجد نفسك مجبرا على أن تكتب عمن تحبهم بـ"كان".

بعد أن أرسلت إلى الأستاذ أسامة مجموعتي القصصية البكر "بيت لا تفتح نوافذه..."، سألته عن انطباعه حول نصوصها، فرد على سبيل المجاملة بأنها "تنفع يتعمل منها سيناريو". لست هنا للتفاخر بكلمته، لكن جوابه يشي بقراءته للعمل، وانتباهه إلى أن كتابتي القصصية متأثرة بأسلوب السيناريو، وهذا ما يدل على تواضعه المعهود، (في حين لو أرسلت كتابا إلى زميل أو صديق، لن يتصفحه نهائيا، وقد يرد -فيما بعد- بمجاملة عابرة تفضحه). ولو أن من هاجموا الراحل عرفوا أنه رغم شهرته الكاسحة متواضع، لترفعوا عن تلك السفاسف.

في حواري معه أشرت إلى من يهاجمونه على النت، فكان رده بمنتهى الهدوء: "تلك تفاهات من يتسلون على النت، ومجموعة السلفيين المتنطعين الذين يحاولون أن "يوهبنوا" الثقافة المصرية، وأنا لا أعبأ بهم جميعا.. إنما أعبأ بالمواطن البسيط ".

وفي تعليقه على من انتقدوا عادل إمام رد قائلا: "اللسان من الصعب اعتقاله، هل ستعتقل ألسنة الناس؟ لو صادفك طفل في الطريق وقذفك بحجر. هل ستجري وراءه؟ ستحترم نفسك وتبتعد. أسهل شيء السباب، ولغتنا -والحمد لله- عامرة بكل صيغ السباب واللعن".

لماذا ننسى الأشياء الجميلة بسرعة، ونتذكر الأشياء السيئة فقط؟ لماذا نسي أو تناسى من هاجموه أعماله العظيمة، ولا يتذكرون سوى تصريحاته النارية، ينسون أنه رمز من رموز الثقافة والفن؟ هل هي لعنة الوسط الفني؟ هل لأنه كاتب سيناريو نرميه في سلة واحدة مع فقاقيع الصابون وأدعياء الفن والمتطفلين؟ ألا يكفي أنه أول كاتب يجعل المشاهد العادي يتقبل وجود شخصيات مثقفة في عمل فني ويتعاطف معها.. شخصيات تقاوم كل أشكال التخلف والقهر والفساد؟

لقد استطاع أسامة أنور عكاشة أن يحفر بعض شخصياته في الوجدان العربي، صانعا نجومية عدة فنانين.. فمن منا سينسى الأدوار اللافتة، التي أداها كل من صلاح السعدني في "ليالي الحلمية" و"أرابيسك"، والراحل محمود مرسي في "رحلة السيد أبو العلا البشري"، وفردوس عبد الحميد في "زيزينيا" و"النوة"، كما صنع نجومية هشام سليم وممدوح عبد العليم انطلاقا من "ليالي الحلمية"، وتألقا في خماسيته "المصرواية" التي لم تكتمل، واكتشف أحمد السقا في إحدى المسرحيات وقدمه في مسلسل "النوة"، ورأينا عبلة كامل في أجمل أدوراها على الإطلاق في "امرأة من زمن الحب"، فسرقت عبلة الكاميرا من كل نجوم المسلسل حتى بطلته سميرة أحمد.

ولا ننسى سناء جميل وجميل راتب وسمية الألفي في "الراية البيضا"، ويحيى الفخراني في "زيزينيا" و"ليالي الحلمية"، ويوسف شعبان وعفاف شعيب في "الشهد والدموع"، وقدم زوجته الشابة عبير منير في دور الأميرة التركية في "المصراوية". أما نبيل الحلفاوي، سيد عزمي، سيد عبد الكريم، فكل أدوراهم بدراما عكاشة لافتة، بينما لم يتعامل معه نور الشريف إلا سينمائيا، في فيلمين رائعين من إخراج الراحل عاطف الطيب "كتيبة الإعدام" و"دماء على الإسفلت".

رغم الشهرة الكاسحة للراحل، لم تلق أعماله الأدبية نفس نجاح أعماله الدرامية، وقليلون من يعرفون أنه بدأ كاتب قصة، وأصدر عدة روايات، آخرها "سوناتا لتشرين"، في حين يبقى مصير روايته الأخيرة "شق النهار"، التي نشرها في جريدة الأهرام متسلسلة مجهولا وغامضا مثل مصير أبطال خماسية "المصراوية"، التي كان يعزم على أن تكون آخر لقاء بينه وبين جماهيره العريضة، فرحل عميد الرواية التلفزيونية دون أن يكمل كتابتها. بعد أن شكل استثناء وظاهرة خاصة، فهو أول كاتب سيناريو "نجم"، وأشهر كاتب عربي على الإطلاق، فحتى ربات البيوت يعرفن اسمه، بينما هناك حملة شواهد عليا، ولا يعرفون من هو ماركيز.

هشام بن الشاوي