فاطمة الزهراء فلا


لا أملك من أمري سوى الركوع بين يديكِ


يرى مانفريد كلاوس أن شعر بالاداس يكاد يكون صلاة لهيباتيا وهو مليء بالمعاني الروحانية الجميلة.

ميدل ايست اونلاين
كتب ـ أحمد فضل شبلول

في إحدى قصائده عن الإلهة تايكة، يقول الشاعر السكندري بالاداس الذي أصدر مؤلفه حوالي عام 400:

أنتِ أيتها الإلهة جالبة الحظ السعيد

لقد صرتِ الآن ذكرى

لقد صرتِ الآن سُبَّة

وما عدتِ قادرةً على جلب الحظ لنفسك

أنتِ من كان لك معبد

صرتِ الآنَ امرأةً تصبُّ الخمرَ للسكارى

وغدوتِ الآن خادمة للأنذال

ويدلنا المؤرخ الألماني مانفريد كلاوس في كتابه "الإسكندرية أعظم عواصم العالم القديم" أن مسيحيي الإسكندرية في ذلك التاريخ، لم يهدموا السرابيوم فحسب، بل هدموا معه العديد من المعابد الأخرى، مثل معبد تايكة حامية المدينة وجالبة حظها وسعدها.

ويوضح كلاوس أن الشاعر السكندري بالاداس (الذي توفي عام 430) كانت حياته حافلة بالمعاناة بين زوجة مشاكسة وفشل في حبه لفيلسوفة الإسكندرية هيباتيا، إلى جانب حزنه على انهيار الوثنية.

ويعلن المؤرخ الألماني أنه "وصل إلينا من أشعار بالاداس 150 قصيدة تتحدث كلها عن المشكلات السابقة"، وأنه تعدت شهرة هذا الشاعر حدود مدينة الإسكندرية و"حصلنا على أشعار له مكتوبة على حوائط مدينة أفيسوس".

وعلى الرغم من أن الإلهة تايكة لم تجلب له أي حظ سعيد، بل أنه عاش حياة تعيسة، إلا أنه يصف تحول معبد تايكة (جالبة الحظ السعيد) إلى حانة يجلس بها السكارى، وكان وصفه هذا يقع في ثلاث قصائد حزينة، حيث كان صعبا على أتباع الإلهة تايكة تقبل هدم معبد إلهتهم، ولكنهم تمكنوا من إنقاذ بعض التماثيل الإلهية من المعبد.

وفي هذه الآونة يصعد نجم الفيلسوفة السكندرية هيباتيا التي ولدت عام 370 لأب يدعى ثيون يعمل بالفلسفة وعلم الرياضيات بالموسيون (المكتبة والجامعة) بالإسكندرية، وله مؤلفات عن أصوات الغربان، ولم يكن يخشى القساوسة.

لم يكن من المألوف وقتها تقبُّل فكرة أن تكون امرأة فيلسوفة أو تعمل بالفلسفة، ولكن سرعان ما أصبحت هيباتيا أستاذة للمدرسة الأفلاطونية بجامعة الإسكندرية، تلك الجامعة التي يقول عنها كلاوس إنها كانت من أهم دور العلم في العالم آنذاك قاطبة.

وقد شغلت هيباتيا فكر الناس، وألهبت خيال الأدباء والشعراء بعلمها وجمالها، وارتبط بها تلاميذها فكريا وأعجبوا بذكائها وعلمها، كما أنهم أعجبوا بها شكلا وحُسنا أيضا، ووقع في غرامها شاعرنا بالاداس الذي كتب يقول:

عندما أراكِ وأسمع كلماتِك

لا أملك من أمري سوى الركوع بين يديكِ

أنتِ كالنجم الذي يسكن السماء

والنجوم بيتها السماء

إن ضوء شعاعك

لا تستطيع سوى السماء تحمله

يا هيباتيا العظيمة

إن كلماتِك هي الجمال والحكمة

وما الجمال والحكمة

سوى نجوم تضيء في السماء

ويرى كلاوس أن هذا الشعر يكاد يكون صلاة لهيباتيا، وهو مليء بالمعاني الروحانية الجميلة.

غير أن هذه العلاقة بين المعلمة وتلميذها لم تسلم من إساءة الظن، ودل على ذلك تلك العبارة التي علقتْ بها على شغف تلميذها العاشق لها، والذي أساء لها قائلة: "هذا الذي يحبه ليس الجمال الحقيقي".

ويدلنا المؤرخ الألماني على أن هيباتيا ظلت بدون زواج حتى مقتلها، وقد زاد هذا من شعبيتها عند مريديها.

لقد أصبح مقتل هيباتيا (عام 415) مثار خيال عدد من الأدباء والشعراء حتى وقتنا هذا، ومن أبرز الأعمال الحديثة التي تناولت هذا المشهد الدموي، رواية "عزازيل" للدكتور يوسف زيدان (ص ص 155 ـ 159 الطبعة الأولى 2008)، والمسرحية الشعرية "مقتل هيباشيا الجميلة" 1996 للشاعر مهدي بندق.

يصف المؤرخ الألماني مانفريد كلاوس (ص 327) هذا المشهد الدموي بقوله:

"قام الخدام يقودهم كاهن اسمه بطرس بالهجوم على الفيلسوفة هيباتيا أثناء خروجها من محاضرتها في الموسيون متجهة إلى بيتها، ثم انتزعها المسيحيون من مركبتها وجرُّوها على الأرض من شعرها حتى كنيسة قيصر بالإسكندرية. هناك أمر الكاهن بطرس بنزع ملابسها عنها، وأمر المسيحيين بقذفها بالحجارة حتى ماتت، ثم قام المسيحيون بتقطيع جسدها والتمثيل به مستخدمين في ذلك قطع الفخَّار الحادة. بعد ذلك قاموا بحرق ما تبقى من جسدها وذرُّوا الرماد في أنحاء متفرقة من المدينة، وعلل المسيحيون ذلك بأنهم قتلوا رمز الكفر ورمز الديانات القديمة التي تخالف المسيحية".

إن الإسكندرية في ذلك العهد القديم كانت تضم اليهود وأتباع سيرابيس والمسيحيين، وكثيرا ما كان يحدث الشقاق بين هؤلاء وأولئك ويتطور هذا الصراع إلى مذابح بشرية بشعة، وكان مقتل هيباتيا على هذا النحو ما هو إلا صورة من تلك المذابح الوحشية التي نُفذت بتعاليم من كريل أو كيرلس (بابا الإسكندرية، أو بابا الكرسي المرقسي بالإسكندرية) في ذلك الوقت، غير أن هذا القتل "أثار حفيظة حاكم الإسكندرية (أوريستيس) وأثار السخط في جميع أوساط المثقفين والمتعلمين والسياسيين"، ولم يزل هذا المشهد التاريخي ماثلا في الأذهان حتى الآن، وجعل منها حسب كلاوس "شخصية أسطورية وضحية لجميع المعاني النبيلة، حتى أنها غدت رمزا أسطوريا لمدينة الإسكندرية".

أحمد فضل شبلول ـ الإسكندرية