فاطمة الزهراء فلا


درويش كرّس حياته لكتابة الشعر دون انقطاع، وظلّ على امتداد نصف قرن يطرح على نفسه السؤال ذاته: ماذا بعد؟

حيفا (فلسطين) - غصّت قاعات "مركز الكرمل" في حيفا الجمعة بالجمهور النوعي والواسع من حيفا والجليل والمثلث أيضًا، حيث شاركت في اختتام التظاهرة الثقافية التي أضفت لونًا ثقافيًا راقيًا وفي الوقت نفسه شعبيًا على المدينة، مدينة محمود درويش بلا منازع، تظاهرة "١٣ آذار -اليوم الوطني للثقافة الفلسطينية" في أماكن عديدة من المدينة، والذي أُقيم على مدى ثمانية أيام، تحت شعار "سنكون يومًا ما نريد".

واختتمت التظاهرة بالندوة الاختتامية "محمود درويش في الذّاكرة" حيث شارك فيها نخبة من الأساتذة والأدباء منهم الدكتور حسين حمزة الذي قدّم إضاءة على شعرية درويش، والبروفيسور سليمان جبران الذي تحدث عن محمود درويش في المرحلة الأخيرة من شعره، وفتحي فوراني الذي فتح "شُرفات على الحدائق الخلفيّة" وغيرهم..

وافتتح الشّاعر بشير شلش الأُمسية بكلمة "لجنة ١٣ آذار للثقافة الوطنيّة" بقوله "مرة أخرى

تجمعنا فعالية من فعاليات اليوم الوطني للثقافة الفلسطينية التي ابتدأت فعالياته في حيفا، في يوم ميلاد الشاعر الفلسطيني محمود درويش الثالث عشر من آذار وتحت إشراف "لجنة ١٣ آذار للثقافة الوطنية" التي تتوزع نشاطاتها في غير مدينة ومكان في الداخل الفلسطيني تزامنًا مع إحياء هذا اليوم في شتى مناطق وجود الفلسطينيين في بلادهم".

وأضاف "لعلّ أكثر ما يجدرُ بنا فعله ونحن نحلُّ ضيوفًا على اسم محمود درويش في ذكرى ميلاده التي أُعلنت يومًا للاحتفاء بالثقافة الوطنية الفلسطينية قاطبة أن نستذكر المحطّات الأبرز التي ساهمت في خلق هذه التجربة الفلسطينية المتفردة ذات الحضور والرسوخ غير المتكرر وغير المسبوق في الذّاكرة الجمعية لأبناء شعبه وأُمته، وفي ثقافات العالم الحديثة بما يساهم في الإضاءَة على حياته وتجربته الأدبيّة المديدة بمختلف مراحلها ومستويات قراءتها".



وتابع "قيّض لمحمود درويش أن يعيش شاعرًا حتى الرمق الأخير. ورغم نجوميّته غير الاعتيادية لم يركن إلى منجزه وتصفيق الجمهور بل اشتغل بدأب يثير الإعجاب وبالغ التقدير على تطوير مشروعه الشعري، وفتح نوافذ فلسطين على العالم حتى صارت فلسطين استعارة كونية وسؤالاً عن جوهر العدالة واختبارًا جماليًّا وأخلاقيًّا لضمير العالم المُعاصر".

وقال شلش إن اسم درويش تحوّل إلى مرادف لبلاده بشجرها وبشرها وحجرها "في جدل متعدِّد المستويات بين محطّات حياته الشخصية المفصلية التي شاءَت الظروف التاريخية أن يجد السواد الأعظم من الفلسطينيين صورتهم في مراياها وأن يتماهوا مع صوت حكايته الشخصية التي وجدوا فيها صدى لأيامهم وأصواتهم في لعبة لا تني تتفرّع وتغتني بين العام والخاص والشخصي والعمومي والذاتي والوطني في آنٍ معًا".

واختتم كلمته بقوله "باحتفائنا بمحمود درويش وأدبه إنما نحتفي بحصّتنا من هواء النّهارات وأشعة الشمس وحقِّنا الطبيعي في الحرّية والحب وتذوّق الجمال وتقديره، وفي الاحتفاء البسيط وليس الساذج بإنسانيتنا التي يحاول عدوّنا أن يسلبنا إياها ليواصل احتلال بلادنا وترويع أحلامنا".

وقدم البروفيسور سليمان جبران مداخلة حول المرحلة الأخيرة في شعر درويش، وهي المرحلة التي شهدت ولادة الأعمال الأجمل والأنضج في مسيرة الشاعر المديدة.:

وقال جبران "لا أظنّني مغاليًا إذا قلت إنّ محمود درويش هو أكثر الشعراء العرب بعد الحرب العالمية الثانية شهرة وانتشارًا. عوامل كثيرة ومتنوّعة تضافرت في تشكيل هذه المكانة المتميزة للشاعر وشعره، في حياته وبعد وفاته أيضًا. هناك أوّلا موهبة شعرية فذّة تجلّتْ بوضوح حتى في أشعار الصبا التي بدأ درويش كتابتها ونشرها، وهو ما يزال على مقاعد المدرسة الثانوية، في أواخر الخمسينات من القرن الماضي. هذه الموهبة، أو السليقة كما يسمّيها هو، كفلت للقصيدة الدرويشية في مراحلها كلّها انسيابها في طواعية ويسر مهما كانت القصيدة راقية ومركّبة".

وإشار إلى أن العامل الثاني لشهرة درويش يتمثل بشعره وحياته حيث غدا "شاعر فلسطين أو شاعر القضية أو شاعر المقاومة، يذكّر بفلسطين وتذكّر به دائمًًا سواء رغب الشاعر في هذه الألقاب أو رفضها. درويش نفسه شكا غير مرة من تناول شعره فلسطينيًّا دونما التفات إلى الجانب الجمالي فيه، كأنّما القضيّة الوطنية هي رافعة هذا الشعر ومدعاة رقيّه وانتشاره. بل إن الشاعر، في أحيان كثيرة، كان يشاكس جمهوره رافضًا إلقاء قصائده السياسية المباشرة تلبية لإلحاح هذا الجمهور في الأمسيات الشعرية الحاشدة التي شارك فيها إلا أن ذلك كلّه لا ينفي طبعًا قيام الإيديولوجيا عاملاً آخر من عوامل تقييم هذا الشعر و انتشاره".

وقال جبران إن العامل الأخير والأهمّ في انتشار شعر درويش وبلوغه مستوى فنّيًا راقيًا هو "أنّ درويش واصل خلال نصف قرن وأكثر كتابة الشعر دون انقطاع، وفي خطّ صاعد في مجمله. بل يمكن القول إنه كرّس حياته، فعلاً لا مجازًا، للقراءة المتواصلة المتنوّعة، ولكتابة الشعر، والانطلاق به إلى مناطق جديدة على الدوام. كأنّما ظلّ على امتداد هذه المسيرة الشعرية الحافلة يطرح على نفسه السؤال/ الطلب ذاته: ماذا بعد؟ فهو لم يقنع يومًا بالجماهيرية الواسعة التي حقّقها شعره الخطابي المباشر، حتى في المرحلة الأُولى من نتاجه قبل مغادرته فلسطين سنة ١٩٧٠ ولا بالمديح يُغدق عليه من قرّائه وناقديه في البلاد وفي العالم العربي، بل واصل دائمًا البحث عن الجديد غير قانع بما أنجز".

وقال الأديب محمد علي طه إنه عاش مثل محمود درويش مرارة تهدُّم أمكنة طفولته في عام النكبة وزامل الشاعر الكبير على مقاعد الدراسة وظل وفيًّا لصداقة امتدت عدة عقود متواصلة، وهو قبل ذلك قاص فلسطيني مميّزٌ ومتميّز أغنى المكتبة العربيّة بعدد وافر من المؤلّفات، إضافة الى كونه أحد كتاب المقالة الساخرة المبرّزين في الأب الفسطيني.

وقال عباس زين الدين، الذي زامل درويش في صحافة الحزب الشيوعي إن محمود درويش

"كان بشكل ما كائنًا محرومًا من الأسرار، لكنه قبل ان يصبح نجم القصيدة الفلسطينية الأكثر سطوعًا عاش تفاصيل حياته اليومية بكثير من البساطة".

وكان آخر المتحدّثين الدكتور حسين حمزة الذي بدأت علاقته بشعر محمود درويش قارئا متذوقًا للأدب وأوصله شغفه بشعر محمود درويش إلى كتابة إحدى رسائل الدكتوراة الأكثر جدّية من التي كتبت عن محمود درويش. والذي عرف كذلك الشّاعر عن قرب عبر عشرات اللقاءات والحوارات التي أجراها معه بهدف الإعداد لرسالة الدكتوراه.

وشارك حمزة الجمهور في مداخلته عن ميّزات شعرية محمود درويش في المرحلة الأخيرة من حياته، وهي المرحلة التي شهدت ولادة أجمل أعمال الشّاعر الإبداعية، وأكثرها تميُّزًا ونضجًا وحضورًا في مسيرته الأدبية.

وتضمن الجزء الثاني للتظاهرة أمسية غنائية بعنوان "يغنون محمود درويش" أحيتها الفنانة رنا خوري التي غنّت من قصائد محمود درويش "ريتا" و"أنّ إلى خبز أُمي" - من ألحان مارسيل خليفة و"أنا الطريدة" و"عن لاجئ" من ألحان سعيد مراد وكذلك من "الجدارية" من ألحان حبيب شحادة حنّا الذي رافق رنا خوري على العود.

وفي القاعات الرئيسية في "مركز الكرمل" أحاط الجمهور معرض صور محمود درويش الذي أعدّته سهام داوود وهو عبارة عن ٢٣ لوحة مطبوعة بحجم كبير وبجودة عالية ترصد كافة مراحل حياة درويش.